إضاءة تاريخية

إضاءة تاريخية

د. هاشم غرايبه
#التاريخ هو الأكثر تعرضا للتزييف، ولما كانت منطقتنا العربية تقع في قلب #العالم الأقدم تاريخيا، ومن أوائل المناطق المأهولة، فقد تعرض تاريخها لكثير من #التشويه المغرض، سواء من قبل #المؤرخين #المستشرقين، أو ممن تبعهم من المؤرخين العرب الذين ظهروا في مرحلة انهزام #الدولة_الإسلامية.
المؤرخون الأوروبيون الذين اعتبروا أنفسهم مرجعا وحيدا لتاريخ البشرية المدون، ظهروا في القرن الثامن عشر (زمن ظهور العلمانية الأوروبية الإلحادية) ، يعتبرون جميع الحضارات القديمة وثنية، انطلاقا من ثقافتهم الرافضة لكتب الله ومنهجه، فكانوا يعتمون على ما يدل على ثقافة التوحيد، ويركزون على الشواهد التي انحرفت فيها بعض الأقوام فأخذت تعدد الآلهة.
كثيرا ما يجري الحديث عن الحضارة الفرعونية التي استوطنت وادي النيل، ويقابلها زمنيا حضارة بلاد الرافدين، وبينهما حضارة بلاد الشام، أنها وثنية، مع أنه لا توجد شواهد تثبت أن ذلك سمة عامة، وحتى التماثيل والمنحوتات التي بقيت من آثارهم، كانت جميعها تمجيدا للملوك والقادة ولم تكن تمثيلا للآلهة المتعددة، التي كانت سمة الشعوب الأوروبية الأقل تحضرا لأنها الأبعد عن موطن رسالات الله.
في التاريخ الديني ان ثاني الأنبياء بعد آدم هو “شيث”، أما ثالثهم فهو “إدريس” عليهم السلام، وظهر “إدريس” في مصر، وهذا هو تفسير انتشار التوحيد فيها مبكراً، وخلال مراحل زمنية مختلفة.
لكنه لأن الله خلق الإنسان أكثر شيء جدلا، فكان سرعان ما يرتد عن الإيمان، استجابة لشياطين الجن بالغواية، ولشياطين الإنس الذين يعادون التوحيد لأنه يحد من أطماعهم وغرورهم.
يقول المؤرخ الإسلامي “ابن جلجل – 980 م”: “إن إدريس عليه السلام قد رسم تمدين المدن، وجمع له طالبي العلم بكل مدينة، فعرّفهم السياسة المدنية، وقرر لهم قواعدها، وهو أول مستخرج الحكمة وعلم النجوم”.
ويقول د. محمد عمارة إن الحضارة والمدنية ظلت في مصر طوال تاريخها في تغالبٍ تبادلي مع التخلف والانحطاط، متوافق مع تغالب التوحيد والشرك.
لقد أغفل المؤرخون ذكر كثير من الوثائق المدونة التي كانت توثق غلبة التوحيد متزامنة مع التقدم الحضاري خلال الفترة الفرعونية، منها مناجاة “أمنحتب الثالث” لله، التي تعود الى تاريخ (1380 ق.م)، ويقول فيها: “أيها الموجود دون أن توجد، مصور دون أن تصور، هادي الملايين الى السبل، الخالد في آثاره التي لا يحيط بها حصر..”.
وقد انتشر فكر توحيد الله أكثر خلال حكم “أمنحتب الرابع” الذي يدعى “أخناتون”، ومن التأمل في دعوته نجد أنها تحمل مبادئ الدعوة الإسلامية ذاتها، إذ يقول مخاطبا الله: “أنت يا إله يا أوحد، لا شبيه لك، لقد خلقت الأرض حسبما تهوى، أنت وحدك خلقتها ولا شريك لك..”، فبماذا يختلف قوله هذا عن مبدأ التوحيد الوارد في قوله تعالى: “قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ اللَّهُ الصَّمَدُ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ”؟.
ظلت الرسالات السماوية المعالج الوحيد للرِدّات الشركية، وعندما عم الشرك العالم، وانحسر التوحيد في قلة من الناس أرسل الله نوحا عليه السلام ولبث يدعو قومه ألف سنة، من غير أن ينجح في هدايتهم، فكان الطوفان، الذي أنجى الله فيه المؤمنين، ليعيدوا سلالة سكان المنطقة المتوسطة في العالم من جديد.
لكن مرور الأزمان أنساهم عاقبة الشرك، فظلت سُنّة الله في الأقوام أن يرسل رسلا يهدونهم، وحينما كان يفشل الرسول في إعادة القوم الى التوحيد، كان الله يهلكهم، ويستبدل بهم غيرهم.
وعندما ارتد قوم موسى فحولوا التوحيد الكوني الى عنصرية قبلية، أرسل إليهم عيسى عليهما السلام، لكن في ظل التسلط الاستعماري الروماني حوصرت رسالته، ولما جاء “بولس” بعقيدة التثليث، تحولت التوحيدية النصرانية الى الشركية، وكان ذلك مدخلا لتبنيها أوروبيا بعد أن توافقت مع عقيدتهم في تعدد الآلهة.
تصدى نصارى مصر لهذا الإنقلاب، فأعلن “آريوس” قس كنيسة الاسكندرية: “ان الله جوهر أزلي أحد، لم يلد ولم يولد، وكل ما سواه مخلوق”.
ظل الآريوسيون صامدين رغم اضطهاد الرومان والكاثوليك لهم، حتى ظهر الإسلام وحررهم، وكانت رسالة النبي صلى الله عليه وسلم الى هرقل: “أسلم يعطك الله أجرك مرتين، فإن توليت فإنما عليك إثم الأريسيين”.
بعد ذلك تحدد منهج التوحيد في الإسلام، وشهدت القرون الخمسة عشر الماضية انتصاره، وبعون الله لن تكون ردة عنه.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى