إصلاح التعليم العالي يحتاج إلى إصلاحيين حقيقين وليس إلى خطباء
الأستاذ الدكتور أنيس الخصاونة
شهد الأردن قبل عام تقريبا انطلاق الإستراتيجية الوطنية لتنمية الموارد البشرية برعاية ملكية تؤشر إلى مدى الأهمية التي توليها القيادة السياسية لموضوع الموارد البشرية التي يشكل التعليم العام والعالي مادة هذا الإستراتيجية التي تم الإعداد لها والتحضير لمادتها ومقترحاتها الإصلاحية على مدار أحد عشر شهرا. وفي الوقت الذي نقدر مقدار الجهود التي بذلت في شتى اللجان الرئيسية والفرعية التي تناولت مختلف محاور التعليم ابتداء من مرحلة ما قبل المدرسة وانتهاء بالتعليم التقني والعالي ، وربط ذلك مع سوق العمل فإننا ينبغي أن نؤشر إلى أن تنفيذ تلك الإستراتيجية وترجمة بنودها ومحاورها إلى واقع تطبيقي يحتاج إلى جهد ضخم حتى لا تؤول هذه الإستراتيجية إلى كلام مجرد ومنمق ولكنه لا يتجاوز أن يكون حبر على ورق. من هنا فقد أنيطت مهمة تحويل الإستراتيجية الوطنية إلى سياسات قابلة للتطبيق إلى كل من وزارة التعليم العالي والبحث العلمي ، والمجلس الاقتصادي الاجتماعي.وفي الوقت الذي نعتقد بأن وزارة التعليم العالي والمجلس الاقتصادي والاجتماعي يبذلان جهود طيبة لصياغة سياسات عملية للتعليم العالي مستندة إلى محاور الإستراتيجية الوطنية للموارد البشرية فإن انعقاد ندوة إصلاح التعليم العالي في البحر الميت خلال الفترة 14-15-9 -2107 والتي يتولى الحديث فيها بعض الشخوص الجدليين من القيادات الجامعية التي تدور حولها شبهات فساد كثيرة وتم تحويل البعض إلى هيئة النزاهة ومكافحة الفساد وإلى الجهات القضائية المختصة يضع كثيرا من الشكوك على مصداقية جهود إصلاح التعليم العالي في الأردن ويبقي هذه الجهود في مربع التنظير والخطابات التي نالت من مؤسساتنا التعليمية وأسهمت في تراجعها في العقود الثلاث الماضية.
إن التنظير لإصلاح التعليم العالي يختلف تماما عن تنفيذ الإصلاح على أرض الواقع في الجامعات والمعاهد. وإنني أتساءل هنا هل يمكن أن يتم إصلاح التعليم في الجامعات على يد نفس الذوات والشخوص الذين قادوا الجامعات على مدار العشرين سنة الماضية وأوصلوها لما أوصلوها إليه من تردي وتراجع؟ لا أعتقد بأن هؤلاء يمكنهم أنه يكونوا إصلاحيين لأنهم هم جزء من المشكلة ، وأن تنفيذ الإصلاح يحتاج إلى شخصيات قيادية إصلاحية بامتياز، بحيث يمكن لهذه الشخصيات التخلص من النمط التقليدي في إدارة الجامعات والمعاهد ، والولوج في أساليب جديدة وإبداعية سواء في تشخيص المشكلات ، أو النظر للمشكلات القديمة بطرق جديدة ، أو استخدام أساليب مبتكرة في مواجهة التحديات ووضع الحلول للمشكلات التي تواجهها الجامعات الرسمية. وفي هذا الصدد فإن اختيار القيادات الجامعية ينبغي أن يستند إلى أسس تسهم في إفراز شخصيات يمكنها أن تقود الإصلاح بذهنية وأسلوب العلماء وليس بأسلوب وذهنية عرفية وأسلوب البيروقراطيين والسلطويين الذين يستندون في إدارتهم لمؤسساتهم على الإجبار والعقوبات ولجان التحقيق وتكميم الأفواه.
بعض المتحدثين في ندوة إصلاح التعليم العالي في البحر الميت تولوا الإدارة الجامعية ولم ترى الجامعات خيرا على أيديهم ، لا بل فقد تراجعت نفقات كل من الإبتعاث الخارجي والبحث العلمي في بعض الجامعات التي ابتليت بهكذا إدارات إلى ما يقارب النصف خلال عامين ،علما بأن ما يميز الجامعات عن المدارس الإعدادية والثانوية هو هذين البعدين المهمين في مجال الإبتعاث الذي يمثل شريان حيويا ومهما لإمداد الجامعات بأعضاء هيئة التدريس المؤهلين والمتمكنين علميا من التدريس والبحث ،أما الجانب المتصل بالبحث العلمي فهو الذي يكفل استمرار تطوير أعضاء هيئة التدريس لأنفسهم وإمكاناتهم وتحديث مجالاتهم المعرفية ومواكبة المستجدات التي طرأت على حقولهم التخصصية.
إصلاح التعليم العالي ،كما هو الحال في شتى مناحي الإصلاح في الدول الحديثة، يتطلب أيادي وقيادات إصلاحية تتوفر فيها ليس فقط المقدرة والتأهيل الورقي والشهادات وإنما القدرة الحقيقية على السلوك والممارسات الإصلاحية.من جانب آخر فإن قيادات الإصلاح في التعليم العالي ينبغي أن يتوفر فيها ذهنية إصلاحية ونزاهة وسجل نظيف من الممارسات البعيدة عن التحيز والمحسوبية تمام مثل تلك الشروط والمتطلبات المتصلة بالنزاهة والموضوعية والحس العالي بالعدالة التي ينبغي أن تتوفر في القاضي إضافة إلى المعرفة الفنية والقانونية
إصلاح التعليم العالي يحتاج لإرادة القيادة السياسية العليا ونحن هنا نسمي الأشياء بمسمياتها لنقول أن الإصلاح يحتاج لإرادة أولي الأمر وفي حالتنا هذه نتحدث عن إرادة جلالة الملك ، واليوم نجد أن اهتمام وزارة التعليم العالي والمجلس الاقتصادي والاجتماعي ربما يعكس الإرادة السياسية الإصلاحية لهذه القطاع المهم ، ولكن اختيار بعض الوجوه غير الإصلاحية لتتصدر عمليات الإصلاح قد يضع إشارات استفهام كبيرة حول قدرة الحكومة على تحويل الإستراتيجية الوطنية للموارد البشرية التي حظيت بمباركة الملك إلى واقع عملي حقيقي في جامعاتنا ومؤسساتنا التعليمية. لقد فقدنا الثقة بوعود الحكومات المتعاقبة وخطاباتها المنمقة المتصلة بإصلاح التعليم العالي في الوقت الذي حرمت الجامعات من الرسوم التي كانت تجمعها باسمها على مدار عقدين من الزمن.
الحكومات إذا ترك لها الأمر لن تفعل الكثير من أجل الجامعات ، ويشعر كثير من الأردنيين بأن انشغال حكومة الملقي بكيفية التعامل مع الواقع الاقتصادي الصعب جدا الذي تعيشه المملكة اليوم ، وتوجهها المؤسف لزيادة الضرائب وما يمكن أن ينجم عنه من تداعيات سياسية واجتماعية تؤثر على استقرار البلد يجعل إصلاح التعليم ليس من ضمن أولويات هذه الحكومات. نعول على اهتمام الملك بموضوع الموارد البشرية والتعليم بشقية الأساسي والعالي ونعتقد بأن الحكومات تهتم في أي قضية تشعر بأن الملك مهتم فيها ويوليها عنايته فهل تترجم حكومة الملقي اهتمامات الملك في إصلاح التعليم العالي؟؟