إصلاح التعليم العالي / أ.د أنيس خصاونة

إصلاح التعليم العالي يحتاج إلى الخروج من دائرة الكلام إلى دائرة الأفعالمنذ إكمالي لدراستي العليا في الولايات المتحدة عام 1986 ومزاولتي لمهنة التدريس والإدارة الأكاديمية في عدد من الجامعات الأردنية الرسمية وأنا أسمع نفس العبارات المكررة التي يرددها المسؤولين في التعليم العالي والجامعات حول إصلاح التعليم العالي ، وإزالة الاختلالات التي تشوبه ،وموائمة المدخلات مع حاجات سوق العمل ،والتركيز على الجودة ،وتشجيع التعليم التقني. نعم منذ ثلاثون عاما لم يتحقق أي من هذه الأهداف ولم يتجسد أي من هذه الشعارات البراقة التي تدخل في باب علم الكلام لا في باب الوقائع والأفعال .كثيرون ممن يرفعون هذه الشعارات حفظوا الدرس ولديهم خطابات جاهزة ويتقنون استخدام المصطلحات لكنهم أنفسهم ساهموا بما وصل إليه التعليم العالي حاليا من خلال المواقع الجامعية التي شغلوها على مدار ثلاثة عقود من الزمن فهيهات أن يتحولوا هؤلاء إلى مصلحين حيث لم يسجل التاريخ قط إنجاز الإصلاح بذات المعاول التي تسببت بالعطب والانهيار.
لقد كانت جودة التعليم العالي في الاردن قبل ثلاثون عاما أفضل بكثير من سوية جامعاتنا ومعاهدنا اليوم سواء من حيث التعليم الجامعي أو التقني ناهيك عن أن جامعاتنا كانت أكثر فاعلية في غرس منظومة تربوية وقيمية لدى طلبتنا . أساتذة الجامعات كانوا أكثر جدارة وجدية في ممارسة أدوارهم التعليمية والبحثية والتربوية والطلبة كانوا أكثر استعداد وحرصا على التعلم ، ومنشآت الجامعات ومختبراتها وقاعاتها وتجهيزاتها كانت أفضل حالا وأحسن مواكبة لمتطلبات العلم والتكنولوجيا مع اننا لم يكن لدينا هيئات اعتماد ولا مراكز للجودة ولا صناديق للبحث العلمي لا بل لم يكن لدينا وزارة للتعليم العالي أيضا. أعضاء الهيئات التدريسية الذين يشكلون معاول التغيير كانوا قبل ثلث قرن من الزمان قد تخرجوا من أفضل الجامعات العالمية واليوم نرى حملة الشهادات العليا بالمراسلة من جامعات لم يزوروها على الاطلاق إلا يوم مناقشة رسالة الدكتوراه أو أنهم تخرجوا من معاهد هي أقرب إلى الإتجار بالشهادات منها إلى التعليم والتأهيل ناهيك عن انتشار مراكز ومكاتب متخصصة مهمتها استكتاب الرسائل الجامعية والبحوث العلمية المطلوبة لنيل الشهادات العليا. رتب وترقيات أعضاء الهيئات التدريسية في الجامعات قضية أخرى يشوبها ما يشوبها من شراء البحوث والسرقات العلمية واستكتاب أو استئجار زملاء آخرين وخصوصا من جنسيات عربية مهاجرة مقابل تمديد خدماتهم في الجامعات .
وزراء التعليم العالي المتعاقبين على اختلاف نحلهم ومدارسهم ونفوذهم كلهم ينادون بإصلاح التعليم العالي ويؤكدون على جدية الحكومة ووزارة التعليم التي يتربعون عليها في هذا المضمار ولكنهم يأتون ويذهبون ولا يتركون أثرا كبيرا في الإصلاح المنشود. هؤلاء الوزراء وزملائهم من المستوزرين يتنافسون على موقع الوزير وليس على قيادة الإصلاح .وهنا ينبغي أن لا يغيب عن بالنا أن اصلاح التعليم العالي أو حتى التعليم العام أو الصحة لا يتم وينبغي أن لا يتم على يد وزير أو شخص واحد ولا يجوز حتى أن يتم صياغة محتوى واتجاه التغيير في قضايا حيوية في التعليم بما ينسجم مع رؤى ومنظور وفهم وزير معين أو أمين عام. إصلاح التعليم العالي في الاردن على مدار العقود الماضية كان يتم على هذه الشاكلة أي وفقا لمعتقدات الوزير وأمينه العام وبضع اشخاص في مجلس التعليم العالي يتم اختيارهم وفق أسس غير أكاديمية مما يسهل توجيههم للموافقة على رغبات وتصورات الوزير ورؤى بعض الدوائر الرسمية من غير الأكاديمية.
واليوم تمثل الاستراتيجية الوطنية للموارد البشرية التي شهدنا انطلاقتها برعاية ملكية تمثل نافذة مهمة يمكن إذا ما تم تنفيذها أن تشكل قارب نجاة للتعليم العالي في الأردن. يتطلب نجاح هذه الاستراتيجية بالدرجة الأولى التزام ودعم الحكومة لها وهذا يتمثل بدعم مؤسسات التعليم وخصوصا الجامعات ، وتوفير الموازنات الكافية لتمويل الاستثمار في مختبراتها وطلبتها وأساتذتها ، والأهم من هذا كله هو أن تتوقف الحكومات عبر الأجهزة الأمنية عن التدخل في التعيينات القيادية في الجامعات والتي يتوقع منها أن تقود التغيير. وهنا نسجل باستغراب شديد كيف يتم التعيين في مواقع قيادية عليا في بعض الجامعات الحكومية ممن تخرجوا من معاهد مرتبطة بهيئات سياسية وليس بجامعات أكاديمية يتم تعيينهم بمواقع نواب رؤساء جامعات وعمداء بفعل التدخل ولاعتبارات الأمنية في الوقت الذي ما زال حبر استراتيجية الموارد البشرية لم يجف بعد . من جانب آخر نستغرب ،ونحن نتحدث عن الإصلاح ، كيف ما زال بعض رؤساء الجامعات يتعاملون مع جامعاتهم كبقرة حلوب يستحلبون ما تبقى من موازناتها الخاوية أصلا فتارة يستبدلون أجهزتهم الخلوية واثاث سكنهم الوظيفي دون مبرر ، أو يقومون بالاشتراك في القنوات الفضائية الرياضية(bein sport) على نفقة الجامعة ليتمتعوا وأبنائهم على حساب رسوم الطلبة ،كما أن بعضهم يقومون بمنح أنفسهم ومنح العمداء ونواب الرئيس مكافئآت شهرية بلغت في حدها الأعلى (250) دينارا شهريا مع أن هؤلاء المسئولين يأخذون علاوات إدارية أصلا مقررة بالقانون.
نعتقد بأن إصلاح التعليم العالي يواجه اليوم مقاومة من ذات الرؤساء والقيادات الحالية في الجامعات والمعاهد العلمية ففي الوقت الذي يتحدثون فيه عن الاصلاح والجودة والتطوير تجدهم يختارون فرق إدارتهم استنادا لاعتبارات جهوية أو شللية أو عائلية.أما بالنسبة لمجالس أمناء الجامعات ورؤساء هذه المجالس الذين يفترض أن تتجسد فيهم وبهم حكمة وحاكمية جامعاتهم فنعتقد بأن هناك بون شاسع بينهم وبين الحكمة والحاكمية الرشيدة ،ونؤكد في هذا السياق على ضرورة أن يستمع القائمين على تنفيذ استراتيجية الموارد البشرية لأعضاء هيئة التدريس في الجامعات الذين يتم على أيديهم تتحول مدخلات التعليم العالي إلى مخرجات لسوق العمل ،هؤلاء المدرسين لديهم رواية أخرى وقصة مختلفة عن تلك التي يراها ويرويها رؤساء الجامعات ورؤساء مجالس أمنائها.
نعم على القائمين على إصلاح التعليم العالي أن يتساءلوا ويجدوا جوابا لسبب عدم إنجاز إصلاح التعليم العالي على مدار ثلاثون عاما من مسيرة الجامعات ؟كما ينبغي أن ندرك أن مصدر مقاومة إصلاح التعليم العالي جله يأتي من الحكومة ومن القائمين على الجامعات الذين تم تعيينهم على أسس واعتبارات سياسية وأمنية وليست أكاديمية وتعليمية.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى