اقتصاديات الفوضى Economics of Chaos / د. عبدالرزاق بني هـاني

اقتصاديات الفوضى Economics of Chaos

دولتنا الراهنة تغرق في خضم بحر ٍ لُجي من فوضى منظمة، ومقصودة … لم أقرأ عن شبيـهٍ لها إلا في تاريخ حرب القرم وتبعاتها، وفي تاريخ الحربين العالميتين: الأولى والثانية … أشكال من الفوضى: اقتصادية، وسياسية، واجتماعية، وبيئية، وتعليمية، وإدارية، و، و، … و، …

الكل يُطلق على الكل … انحدرت ثقة الناس بعضهم ببعض، إلى حد ٍ بعيد، فوق المتصور … لم يعد أحد يطيق النقد … وكلُ فرد ٍ متمسكٌ بأمره ورأيه … هذا يشتم هذا … وهذا يسرق هذا … وهذا ينبش قبر هذا … وهذا يتصيد لهذا … وهذا يطعن بشرف هذا ومصداقية هذا … وهذا ينهب بأية طريقة متاحة … وكل واحدٍ يظن بأنه الأصوب والأصح … فالموظف العادي يظن أن الوزير على خطأ، وطالب العلم يظن بأن المعلم على خطأ، وأستاذ الجامعة يظن بأن إدارة الجامعة على خطأ …والكل مُتهم بجريمة أو تقصير أو قلة فهم أو دراية … وفي هذه اللجة القاتلة يضيع الحق والصواب، ويتفرغ العاقلون للدفاع عن أنفسهم، لأن التافهين حشروهم في زوايا الاتهام والريبة، من غير حق ولا منطق. فقد انطبقت القاعدة الشعبية التي تقول بإن جنون العامة لا يُسعف الخاصة …

يعود سبب هذه الفوضى إلى عدم وجود مرجعيات ثابتة، سواء كانت مرجعيات سياسية أو دينية، أو اجتماعية أو أخلاقية متفق عليها … وهي مرجعيات لابد، في الأحوال العادية، أن تكون متسقة ومنسجمة ومتصالحة مع ذاتها … وتعمل من أجل مصلحة المجتمع أولاً وأخيراً …

في هذه الأجواء المسمومة يتطلع كل عاقل ٍ إلى الخلاص مما يجري، إما بالهجرة أو بالانعزال، أو بالتفرغ لأنشطة تلهيه عن إعمال عقله في سبيل التخلص من عذابات الفوضى والانحدار … فقد لاحظت بأن كثيراً من العقلاء يعزفون عن العمل العام، وخاصة في الوظائف العليا، مثل منصب رئيس جامعة أو أمين عام وزارة ما، أو حتى وزير … ما يعني في نهاية المطاف بأن الساحة ستخلو ليملؤها التافهون والجهلة …

وكنتيجة حتمية لذلك تنخفض إنتاجية الأفراد … والإنتاجية هنا تشمل أبعاد الفوضى المشار إليها … أي تنخفض الإنتاجية الاقتصادية بواسطة تضييع الوقت والجهد في أنشطة منحدرة وتافهة، أو عدم إنتاج على الإطلاق، أو تكليف غير المُنتجين بأعمال تتطلب مهارات معينة ليست عندهم … وقد لاحظت في كثير من المكاتب والمؤسسات العامة كيف يتلهى الموظفون، وكيف يعطلون مصالح البشر لأتفه الأسباب، وكيف يتغيبون عن العمل من غير رقيب أو حسيب، وكيف يظلم الموظف من يراجعه حول مسألة معينة…

تنخفضُ الإنتاجية الاجتماعية من خلال تخلي الناس عن القيم الجميلة الداعمة للمجتمع وبقائه … وتنخفض الإنتاجية السياسية من خلال ترك الناس للعمل السياسي الذي يدعم الحكم الرشيد ونشر ثقافة الشورى والمساءلة … فيتصدى الرعاع للعمل السياسي ليحملوا لواء التغيير نحو الخلف والتخلف … ولا يهتم الأفراد بنظافة البيئة من حولهم، فيرموا القمامة في الشوارع وكأنها شيء معتاد ومقبول، فتغدو مدننا وقرانا مرتعاً للتلوث والأمراض الجسدية والنفسية …

في هذا المجتمع تموت المهنية، وتموت الوطنية والإنسانية، فلا يعود المعلم معلماً ولا الطبيب طبيباً، ولا المهندسُ مهندساً …

تعمل هذه البيئة إلى دفع الأفراد ليبحث كلُ واحدٍ منهم عن مصالحه الخاصة، فيصبح مفهوم الصالح العام منعدماً … وترتفع وتيرة الأمراض النفسية، حتى عند أكثر البشر مناعة ضد هذه الصنف من المرض … فقد لاحظت علماء مشهود لهم بالعلم يتناحرون من أجل الاستئثار بمناصب إدارية بعيداً عن علومهم … ورصدت مجموعة من الجهلة الذين أوكلت إليهم مواقع إدارية تحتاج إلى كافة أشكال الذكاء، لكنهم افتقروا لأي شكل … وهكذا تحول المجتمع إلى نادٍ للرامية كل واحدٍ فيه هو هدف مشروع للآخر كي يقتله …حتى وإن كان قتلاً جسدياً … وفي هذا المجتمع الغريب يموت إحساس البشر بالقانون والإنسانية والعرف الاجتماعي المقبول …

هذه البيئة هي وصف حقيقي وواقعي لما أسميه اقتصاديات الهزيمة Economics of Defeat

عبدالرزاق بني هـاني
رئيس جامعة جرش

اظهر المزيد

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى