ملتحفا ثوب #الصبر الذي يمزقه بين الحين والآخر لهب العدوان الإسرائيلي على قطاع #غزة، قبل أن يعيد ترقيعه عنفوان مغالبة لا سقف له، وزوارق إباء تكسر سطوة الدم اللاهب، ومطر #الموت المستمر.
لم يعد لخالد التتري بحوادث الدهر ساعد، ومع ذلك تمر الآلام على فؤاده بردا وسلاما، فأنى توجه رأى ألما مسافرا، وبسمة تغالب الحزن، وروحا متوقدة للإباء، وأما مثل ما أصابه فلعل لسان حاله يقول:
شكا ألمَ الفراق الناسُ قبلي .. وروع بالنوى حي وميت
وأما مثل ما ضمت ضلوعي .. فإني ما سمعت وما رأيت
في أقل من عام تبدلت حياة خالد، كان غنيا فافتقر، بعد أن قضت #الحرب على عمله بشكل نهائي، وفتى قوي البنية عبل الذراعين، شامخ الهامة، فقصت إصابة قاتلة أحد ذارعيه.
يتذكر بحرقة تمتد امتداد الحزن في غزة بعض ما كان عليه حاله “كنت محاسبا ومدير مبيعات في شركة كمبيوتر في منطقة مرموقة في غزة، وأشرف على 12 موظفا.. والآن فقدت كل شيء”.
يضيف خالد: “لقد تغيرت حياتي بأكملها، من شخص نشيط إلى شخص عاجز تماما”.
فـإن تكـن الأيـامُ فيـنا تَبـَدَّلَتْ بِـبُؤْسى ونُعْمى والحوادثُ تَفعلُ
فـما ليَّـنَت منَّـا قنـاة صـليـبة ولا ذلَّلتْنا للذي ليس يجملُ
ولكن رحـلنـاها نفـوساً كريـمةً تُحمَّل مالا تستطيعُ فتَحملُ
كانت طريقه مفعمة بورد المحبة وعبق الألفة، يمر على البيت فتحضنه أمه الوالهة، ليكتشف بعد المأساة أن عينيها ابيضتا من الحزن أسفا على فراق خالد وإخوته.
أكل الحزن ضوء عينين، كان خالد ضوء عينيها، وانسلت الصحة من جسد كان ينمو ويشفى من أمراضه إذا احتضن فلذة الكبد، وتلك مأساة أخرى يحتضنها خالد بذراع وحيد، بعد أن وقع الجيش الإسرائيلي على جسده بطابع لا يمحى، ووثيقة غدر لا تنسى، وتاج كرامة يذكر الفلسطيني أن الاحتلال لم يرع فيهم إلا ولا ذمة.
لم تكن الأم الراحل الوحيد من بيت التتري، فقد اختطفت نيران الاحتلال شقيقه الطبيب الذي كان يرابط في علاج المصابين، ويحمل بلسم الحياة في وجه آلة عدوان غاشم، وكان الموت أسرع إلى جسده، من مبضعه الشافي إلى الأجسام المحطمة جراء العدوان.
ولأن عداد المآسي كريم وسريع في غزة، فقد كانت مأساة الرجل مكررة ومضاعفة، عندما فقد ابنه في القصف الذي استهدف بيته الصغير، كانت وزوجته وأحد طفليه ممن أنسأ لهم.
دموع من جبل الصبر
يتحدث خالد عن محنته التي لا يمكن أن يعبر عنها قلم، ولا أن ترسمها ريشة “لقد أصبت أنا وطفلاي وزوجتي، ومنذ إصابتي لم أرَ والدتي على الإطلاق بسبب ظروفي الصحية الصعبة، لقد كانت إصابتي خطيرة للغاية”.
وتابع والدموع تنهمر على وجهه: “بعد تحسن حالتي الصحية، أتيحت لي الفرصة لرؤية والدتي، ولكن عندما وصلت، اكتشفت أنها فقدت بصرها تماما”.
وعن لحظة المواجهة الأولى مع الأم التي لم تعد تستطيع الاكتحال برؤية خالدها، يعيد خالد -والدمع يخترق جدار صبره- رسم اللحظة المؤلمة “تحولت فرحة لم شملنا إلى حزن ملأ قلوبنا، سألتها: “هل تستطيعين رؤيتي؟ فأجابت: ‘لا أستطيع أن أرى’. عندما رأيتها، شعرت بصدمة كبيرة”.
هنا تخنقه العبرات ويتوقف الحديث، قبل أن يواصل في عرض أمنياته البسيطة التي تتمثل في أن يستند على طرف صناعي يستعيد به توازن جسم ضرسته المأساة، وأن يستعيد أجواء الأسرة الصغيرة، وبسمة الأطفال وحنان الزوجة المكلومة.
يردد خالد “أتمنى أن يتم علاجي، أتمنى أن يتم تركيب طرف صناعي لذراعي، وأن تُشفى ساقي. أريد أن أعود إلى حياتي الطبيعية، وأن أكون جزءا من المجتمع مرة أخرى، وأن أمشي بشكل طبيعي، وأن أكون مع زوجتي وأطفالي”.
جبل من حزن على كتف أب مكلوم
ينتمي خالد لبيت توطنه الألم في الشهور الماضية، فوالده فتحي التتري ورفيقه في رحلة النزوح إلى جنوب غزة من شمالها المحترق، كان هو الآخر قد رافقته المأساة منذ بداية العدوان.
يتذكر الوالد المكلوم بحزن وألم كيف “قتلوا ابني الطبيب (زياد) مع اثنين من زملائه، كان ابني رئيسا لمستشفى العودة ومستشفى الهلال الأحمر ومستشفى بيت حانون، كان يحمل شهادة الدكتوراه في طب الأطفال”.
تترنح المآسي بين كلمات فتحي، فهو الآن رغم السن والنزوح سند لسيدة فقدت بصرها وابنها وآمادا من المسرات كانت تزخرف بيتها الصغير، “فقدت زوجتي بصرها بسبب البكاء المستمر على ابننا الدكتور زياد وابننا خالد”.
من بيت التتري، تطل المأساة، يسرج الحزن ألف قنديل، لكن لا شيء من ذلك، يضيء غير آماد الحزن، في قلب الأم الضريرة، ورغم شموس اللهب التي أحرقت غزة كلها، فإن العالم ما زال الضرير الأول الذي لا يرى اللهب ولا يسمع هدير الدمار، الذي يحرق الأرض والناس والقانون منذ 11 شهرا دامية الأيام.