
ما أشبه الأمس باليوم بين التأييد واللوم
أ.د #محمد_حسن_الزعبي
بدأ خطيبنا الجليل خطبته اليوم بالآية الكريمة (من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه…) فاستبشرت خيرا” بموضوع مغاير لما تعودنا عليه منذ أشهر طويلة من العموميات وتحسين للسلوكيات وما يعرفه كل مسلم بالضرورة. تجهزت جسيما” ونفسيا” للإصغاء للخطبة حيث قمت بتشغيل جميع وسائل السمع والإدراك لدي لأن افتتاح الخطبة بهذه الآية الكريمة لا بد أن يتبعه حديث عن الجهاد والشهادة والنصر وغيره ممن تعلمناه في المدارس في القرن الماضي. لم يخب ظني أبدا فكان موضوع الخطبة عن معركة مؤتة، ذلك المكان التاريخي المليئ بالكرامة ورائحة الماضي التليد والذي يجهل طلاب مدارسنا وحتى جامعاتنا موقعه وسر تسميته وما جرى فيه.
لا أظن أن أحدا” من المصلين ممن حضروا الجمعة، على الأقل ممن تجاوزت أعمارهم الخمسين عاما”، لا يعرف تفاصيل معركة مؤته وكيف تم التجهيز لها وقلة عدد المسلمين مقارنة بالروم في ذلك الوقت، ولهذا ركزت حواسي بما هو أبعد من السرد التاريخي وتفاصيل تسلسل المعركة ونتيجتها وأسماء القادة وغيرها ممن تعودنا على سماعه وقراءته في التاريخ. ذهب ذهني إلى ماكينة التاريخ الإسلامي التي تعالج الأحداث وتمر من خلالها المواقف التي تصنع البطولات. إن لكل مصنع وحدة لضبط الجودة للتدقيق على مخرجاته وكذلك الأمر في مصنع التاريخ الإسلامي فأما أن يكون المنتج صحيحا” أو به عيوب فعاد يعاد النظر به.
خرجت من الخطبة بدروس لم يشر لها الخطيب ولكنني وجدتها حاضرة في الأحداث الأخيرة التي نعيش فصولها اليوم. بداية، لم يكن تجهيز الجيش لمعركة مؤتة مبنيا” على المعلومات الكافية عن العدد الهائل للعدو ولكن كان القرار بعدم التراجع لأن طلب الشهادة كان عندهم أهم من النصر الدنيوي. وهنا تظهر معركة المبادئ والمقاييس بين أهل الدنيا والآخرة، فما يراه فريق من هدف قريب غير ما يراه فريق آخر من هدف بعيد. المسألة الثانية تتعلق بموت القادة في المعركة التي ما كانت لتمنعها من الاستمرار لأن الحدث أكبر من الأشخاص. صحيح أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد أشار لهذا الأمر قبل حدوثه ولهذا لم يقطع المسلمون المعركة بعد استشهاد جزء من القادة ولكن لا أحد يتوقع أن ينهزم المسلمون بعد استشهاد قادتهم حتى لو لم تكن هناك إشارة من النبي صلى الله عليه وسلم بهذا الأمر. المسألة الثالثة وهي مهمة وتتعلق بمقاييس النصر. فعندما قرر خالد بن الوليد إنهاء المعركة لم يكن ليخرج منها إلا منتصرا” وليس رافعا” الرايات البيض. النصر درجات، ربما لا تكون معركة مؤتة قد حققت أعلى درجات النصر ولكنها أثخنت جراح العدو ولو عرف الروم أنهم منتصرون ما كانوا ليتركوا المسلمين يعودون سالمين. لهذا كان تقييم الرسول صلى الله عليه وسلم للنصر مختلفا” عن تقييم العامة له ومن هنا وصف الجند العائدين من المعركة بالكرار وليس كما وصفهم العامة بالفرار وأعطى خالد بن الوليد “وسام” سيف الله المسلول.
من هنا نستدرك أن المعركة بين الحق والباطل لا تقاس بجولة ولكنها سلسلة من وحدات الصراع الدائم، الناس أنواع وفئات : فيه من نصب نفسه مقيما” للنتائج دون أن يكون له سهم فيها، وفيه من يعمل بصمت ولا ينتظر مديحا” من أحد، وفيه من يقف مع الباطل لابسا” ثوب الحق وذلك الشر بعينه فطوبى لأهل الحق حيثما وجدوا.




