أيُّ ألأبناءِ أنتَ ؟ / د. سمير محمد ايوب

أيُّ ألأبناءِ أنتَ ؟
إضاءاتٌ على المشهدِ الاجتماعي
تِلكَ ليلةٌ لم يغمض لي فيها جفن . متَوَجُّعاً على صديقِ عمرٍ لي . يرقد منذ بضعِ سنينٍ ، حزيناً كسيرَ الخاطر ، يُصارعُ بكبرياءٍ وببسالةٍ مُتفائلةٍ ، أوجاعَ السرطانِ المُتقدم ، فوق أحد أَسرة مستشفى ألأمل للسرطان ، في عمان . ليلتَها لم يغمض ليَ جفنٌ ، إثر مُهاتَفةٍ فُجائيةٍ ، كانت خافتةً ، بالكاد تُسْمَعْ ، من الأبنِ البكرِ العاقِّ ، وحيدَ صديقي ، الذي يقضمه مرضه اللعين ، بلا كلل وبلا ملل . يرجوني فيها بإلحاح زيارته ، لحراجةِ حالته الصحية ، إثرَ حادث سيرٍ مُروعٍ تَعَرضَ له منذ أيامٍ وهو عائدٌ من رحلة قنصٍ في بوادي بلاد الشام .
تَردَّدْتُ كثيراً . ولكني سارعتُ إليه ، فليس في المرض شماته كالموت تماما . مُحاوِلا تناسي عقوقِه البشع لوالده . ألفيته وحيداً ، راقداً مُتوجعاً على سرير أحد الأجنحة الخاصة ، في أرقى مستشفيات عمان ، ملفوفا بكل انواع الضمادات ، موصولا بالكثيرِ من الأسلاك والخراطيم الطبية .
ما أن رآني ، حتى تناثرت دموعه . وإرتج صوتُه طالباً يدي لِيُقبلها . أبيت بإصرارا شديدٍ . وعيناي تدمعان رغما مني . حزنا على صديقي المريض ، وشفقة على ولده المصاب . فأنا اعلم سراديب دمع هذا العاق ، وسِرُّ آهاتِهْ . أشرتُ له قائلاً بِصمتٍ بَوّاحٍ : إهْدَءْ شفاك الله وعافاك . وإندَمْ وتُبْ وإستغفِر ربك ، لعل وعسى . فالله يُحِبُّ التوَّابينَ . فاتَكَ الكثيرُ بالطبع. ولكن بالتأكيد ، لم يَفُتْكَ كل شئ . فأنت لم تُغَرْغِرْ بَعْدُ ولله الحمد . فَويلٌ لِعاقٍّ سبقَ عُقوقَهُ مَوْتَه .
قال مختنقا بدمعه : قُلْ لي يا عَمُّ ناصحاً .
قُلتُ مُحَدقا في عينيه الحمراوين ، مَحزوناً مُشْفِقاً وفي البال والده :سأقول لك مُشْبَعاً بالكثير ، مما قرأت وتعلمت وخبرت ، فيما مضى لي من عمر : إسأل نفسك وأنت هنا في لُجَّةِ ألَمِك قبل ان يمن الله عليك بالشفاء التام ، أي الأبناء انت ؟
وبعد ان يمن الله عليك بالشفاء ، ليتك تسأل نفسك ، قبل كل صلاةِ فرضٍ تُؤديها طاعةً او نوافل تتقربُ بها ، او إبتهال لله ، وانت تطوف مُعتمِراً او حاجاً، أي الابناء أنت ؟
وقبل ان تشتري لزوجك أو لأي من أبناءك ، او حتى لنفسك شيئا ، من أي الابناء انت ؟
وإياك ان تنسى مُساءلةَ نفسك بقسوة لَوامَةٍ ، وان تروح عن نفسك في برك السباحة ، وبوفيهات المطاعم وصالات الفنادق ، مُتلَمِّظاً أنت وأبناؤك ، بأشهى الفواكه وأندرها وخارج مواسمها ، حقا انت من اي الأبناء ؟
إن كنت لا تدري بعد ، فإعلم ان ألأبناء يا هذا ، ليسوا للوالدين ، سواء كما يقولون .
أحدهم : لا يفعل ما يأمره به والداه ، فهذا ( عاقّ ) والعياذ بالله
وآخر : يفعل ما يُؤمرُ به وهو كارهٌ ، فهذا ( لا يُؤجر ). .
وصنفٌ ثالثٌ : يفعلُ ما يُؤمرُ به ، ويُتبْعِه بالمَنّ والأذى والتأفّفِ ورفعِ الصوت ، فهذا ( يؤثم ) والعلم عند الله .
وهناك من يفعل ما يُؤمر به ، بطيبِ نفسٍ ، فهذا ( مأجور ) إن شاء الله .
وزينتهم من يفعلُ ما يُريده والداه ، قبل أن يأمروا به ، فهذا هو ( البارُّ المُوفّق ) ، رضوان الله عليه .
لا تَسأل عن بركةِ أعماركلِ نوعٍ منهم ، ولا عن سعة أرزاقهم ، وانشراح صدورهم ، وتيسير أمورهم . فذَلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَآءُ ، وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ .
حدق في وجهي مطولا ، والدمع يَقْطرُ من سَكْسوكَةٍ مصبوغة بشئ من بقايا دمه ، مشذبة مهذبة ومقلمة ، تزين ذقنه المخروطي . وسأل بِعبراتٍ مُختَنِقةٍ : كيف أصلح أمري ، أبروالدي ، وقد بلغا كما تعلم خريف العمر ؟
قلتُ مُشفقاً عليه ، مما هو فيه وعليه حاله وحال والده ووالدته:
كل صباح ، قبل أن تشرب قهوتك او تشعل سيجارتك ، وكل مساء قبل ان تقبِّل زوجتك او ايا من ابنائك ، إسأل نفسك ؛ ما هو بر الوالدين ؟! لتعلم علم اليقين وحق اليقين وعين اليقين ، ان البر ليس مُجرَّد قبلةٍ تطبعها على وجنة أمك أوخَدِّ أبيك ، أو على أيديهما، أو رأسهما او حتّى على قدميهما، فتظنّ أنّك بلغتَ غايةَ الرضى .
فالبِرُّ هو : أن تَسْتشِفَّ بِحاستكِ السادسةِ والسابعةِ والثامنةِ حتى الحاسةِ التاسعةِ والتسعين ، ما في قلبهما او تستشعره ثم تنفذه ، دون أن تنتظر منهما أمرًا . أن تعلم ما يريحهما ويسعدهما ويرفه عنهما . فتسارع إلى فعله . وأن تدرك ما يؤلمهما . فتجتهد أن لا يرونه منك أبداً . حتى لو كان أيا من ذلك على حساب سعادتك . فلم يعد لهما في شيخوختهما ، الكثير مما يجلب السعادة والفرح .
ومن البر أيضا لو أردت ان تسمع ، أن تُخطِّط لعمرة أو زيارة للحرم ، لا يدريان عنها ، إلا وهم هناك ، في الفندق الأنيق الذي يستحقانه . فكل ما أنت فيه ما جاءك ، إلا بسهرهما وتعبهما وقلقهما . وجهد الليالي التي أمضياها في رعايتك .
وإعلم قبل أن أغادرك مُؤقتاً ، أن طُرُقَ البِرِّ المُؤدِّية إلى الجنة ، كثيرةٌ . فلا تَحصرها بِتحيةٍ عابرة مُجامِلَةٍ من غير نفس ، اوبقبلة تؤديها وكأنها خدمة علم ،او بكمشة دنانيراو ببطيخةٍ او كيلو معمول ، كأنها رِشوةٌ او صَدقةٌ لِمُتسولين أو أبناء سبيل ، قد يعقبها الكثير من التّقصير .
واعلم يا رعاك الله وشفاك ، أن برّ الوالدين ليس مناوباتٍ وظيفيَّة ، بينك وبين إخوانك . بل مُزاحماتٌ على أبوابِ الجنّة إن تمنيت وعملت .

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى