
أين هويتنا؟ بين صدأ التاريخ وضباب الإرث المثقل بالروايات الكاذبة
بقلم : المهندس محمود “محمد خير” عبيد
هل كُتب علينا أن نعيش أسرى الماضي، نُردّد ما يُحكى لنا دون تحقق، ونبني #هويتنا على #قصص لا نملك يقينًا من صدقها سوى “قال فلان عن فلان”, هل يُعقل أن يظل وعينا مرهونًا بروايات لا نعرف حقيقتها، بينما واقعنا يتطلب فكرًا جديدًا وإبداعًا أصيلاً؟
ها نحن نحيا على إرث #التاريخ، بين #المجد و #الوهم. غالبيتنا، إن لم نكن جميعًا، نشأنا على تمجيد بطولات الأجداد ورواية انتصاراتهم كأنها حقائق مطلقة. نُعلّق صورهم ونبكي على أطلالهم، وكأن الماضي وحده هو مصدر عزّنا ووجودنا، لكن التاريخ الذي وصل إلينا ليس مرآة صافية؛ بل روايات صاغها المنتصرون، وزيّنها الكَتَبة، وغابت عنها أصوات المظلومين والمُغيَّبين.
وهنا يبرز سؤال جوهري، مع كامل تقديرنا لجهود آبائنا وأجدادنا، هل كان كل ما فعلوه صائبًا بالضرورة، وهل علينا أن نحيا على إرثهم كما هو، دون أن نضيف إليه إبداعنا وبصمتنا في هذه الحياة، إن نصف ما وصلنا من التاريخ مشكوك في نزاهته. فقد صُوِّرت كثير من الفتوحات على أنها “فتوحات دينية”، بينما كانت في حقيقتها صراعات سياسية للتمدّد وبسط النفوذ. أُزهقت أرواح بريئة، وسُبيت شعوب، ودُمّرت حواضر، ثم مجّدها التاريخ كـ “انتصارات”، بينما لم تكن إلا وسيلة لتثبيت سلطان هذا أو ذاك، السؤال الذي يطرح نفسه, إلى متى علينا ان نستمر في تصديق روايات لم تُمحَّص, وإلى متى نظل نعيش على مجد مزيّف ونُردد قصصًا لا تعكس إنسانيتنا, كفانا ترديدًا لهراءات الماضي؛ آن الأوان لنستخدم عقولنا وفطرتنا، لننظر بعيون ناقدة إلى ما ورثناه، ونستعيد حقنا في بناء حاضرنا.
و ها هي الأديان تقبع بين صفاء الوحي وبصمات البشر, فالمكنون الديني الذي يحياه أتباع جميع الأديان السماوية – دون استثناء – يقع بين صفاء الوحي وبصمات البشر. فجميع الأديان في أصلها رسالات نقاء ورحمة اصطفى الله بها البشر أجمعين. لكن، للأسف، ابتُليت هذه الرسالات ببصمات البشر، حيث فُرضت علينا تفسيرات لا نعرف أصلها و فتاوي و اجتهادات لا تمت لاي دين بصلة سوى هناك رجال دين نصبوا انفسهم اوصياء الله على الأرض، وأصبحنا نطيع الناطقين باسمها أكثر من سعينا لفهم الله ذاته وما أرسله لأنبيائه ورسله, فتجدنا أصبحنا نتبع من جاء بعد الأنبياء أكثر مما نتبع ما جاء من عند الله، فتحولت الديانات إلى خطابات لم تعد وسيلةً لتحرير الإنسان، بل أداةً لتقييده. تراكمت الفتاوى والمذاهب وأجندات رجال الدين من أجل كسب أتباع أكثر، وضاق الفضاء الرحب الذي وُجد الدين في أصله ليبنيه.
فالمحدثين و الفقهاء ما هم الا بشر اجتهدوا في زمنهم وفق معاييرهم. فلماذا نغلق باب السؤال وكأن الحق قد اكتمل فيهم؟ أليس من واجبنا أن نُعيد الدين إلى صفائه الأولى دعوةً للرحمة، وإطارًا للفهم، لا وسيلة للهيمنة والسيطرة.
إن هويتنا اليوم عالقة بين التكرار والاختيار. فإذا كان التاريخ مشكوكًا في نزاهته، والدين مثقلاً بتفسيرات بشرية متراكمة، فأين هويتنا نحن, هل نحن مشرقيون متدينون بالوعي والاختيار، أم فقط بالوراثة والانتماء الشكلي, هل نملك مشروعًا إنسانيًا يُمثلنا، أم أننا مجرد صدى لماضٍ لم نعشه, نحن لم ولن نكون خونة لإرث الآباء والأجداد. الخيانة الحقيقية هي أن نُسلّم عقولنا، ونكرر تاريخًا مزيفًا، ونقدّس بشرًا دون وعي, فالإيمان الحق لا يخشى النقد، والتاريخ الصادق لا يخاف التحقيق. والإنسان الذي لا يسأل، يذوب في أوهام غيره ويفقد كيانه.
من هنا اصبح واجب علينا أن نسير نحو هوية نختارها بأنفسنا، نحكم فيها عقولنا وفطرتنا. لسنا مطالبين بقطع جذورنا، ولا بإنكار ماضينا، بل بقراءته بصدق دون رتوش و كذب و خداع و نفاق من اتباع السلاطين كما كان، لا كما صُوِّر لنا. ولسنا مطالبين بمهاجمة أي دين أو عقيدة، بل علينا أن نعمل على تحرير كافة الأديان والمعتقدات السماوية من أثقال البشر، وإعادتها إلى جوهرها النقي.
فالهوية لا تُفرض، ولا تُورّث جاهزة، بل تُبنى من جديد في كل جيل, وكُتب علينا أن نُفكّر، لا أن نُقلّد.
أن نبحث، لا أن نُسلّم, أن نكون نحن, لا مجرد ظلالٍ لآخرين..




