سواليف
يجلس باسل الريحاني خلف مقود جرافته، يتصبب منه العرق وهو ينهمك في جرف الأرض وتحويل الحفر إلى مقابر تمهيدا لاستقبال قتلى يتوقع أن يسقطوا قريباً جراء التصعيد العسكري المستمر في شمال غرب سوريا.
ومنذ نهاية نيسان/أبريل، تستهدف الطائرات الحربية السورية والروسية ريف إدلب الجنوبي ومناطق مجاورة له، ما يسفر بشكل شبه يومي عن سقوط قتلى في صفوف المدنيين، وباتت قرى وبلدات شبه خالية من سكانها بعدما فروا جراء القصف العنيف.
ومع ارتفاع عدد القتلى، بادرت منظمة الدفاع المدني، والمعروفة بـ”الخوذ البيضاء” في مناطق سيطرة الفصائل المقاتلة، بحفر القبور استباقاً لتسهيل وتسريع الجنازات التي باتت تقتصر على بضعة أشخاص يأتون سريعاً لدفن موتاهم خشية استهدافهم من قبل طائرات لا تكف عن التحليق في سماء المنطقة.
وفي مدينة معرة النعمان، التي تتعرض لغارات عنيفة منذ أسابيع، يقول باسل، المتطوع في “الخوذ البيضاء” في الـ25 من العمر، “نجهز القبور ولا نعرف لمن نجهزها، قد تكون لي أو لشقيقي او لرفيقي، الله وحده يعلم”.
وبدلاً من حفر القبور يدوياً كما اقتضت العادة، يستخدم الريحاني الجرافة كونها تُسّرع من عمله فينتهي خلال دقائق معدودة من حفر القبر من دون أن يخاطر بالبقاء كثيراً في الخارج.
وبات الأمر يقتصر على دفن الميت ووضع التراب فوقه، من دون قطعة الرخام التي عادة ما كانت توضع فوق القبور.
ويضيف الريحاني، الوالد لخمسة أطفال، “نجهز القبور لنتمكن من الدفن في أسرع وقت ممكن، فالطيران لا يفارق الأجواء وأحياناً يستهدف الجبانات”.
وتخضع محافظة إدلب ومحيطها، حيث يقطن نحو ثلاثة ملايين شخص، منذ أيلول/سبتمبر الماضي لاتفاق روسي-تركي ينص على إقامة منطقة منزوعة السلاح، لم يتم استكمال تنفيذه. وبعد أشهر من الهدوء النسبي، صعّدت قوات النظام قصفها قبل أن تنضم الطائرات الروسية اليها لاحقاً.
ويتركز القصف على ريف إدلب الجنوبي وحماة الشمالي، ووثق المرصد السوري لحقوق الإنسان منذ نهاية نيسان/أبريل مقتل 360 مدنياً، بينهم 80 طفلاً جراء القصف. كما دفع التصعيد بـ270 ألف شخص للنزوح.
– “دفناها سريعاً” –
وبين القتلى، فاطمة الطفلة التي لم تتجاوز العامين من العمر وقتلت الإثنين في قصف طال قرية بلدة معرشورين.
خرج محمد ترمان (21 عاماً) في ذلك اليوم لشراء الخضار، إلا أنه تفاجأ بقصف عنيف عاد إثره إلى المنزل ليجد أفراد عائلته بين قتيل وجريح.
أخرج محمد فاطمة من تحت الأنقاض لكنها توفيت بعد دقائق من وصولها إلى المستشفى.
ويقول ترمان “خرجنا إلى المقبرة، كان عددنا قليل فالناس تخاف من أن يعود الطيران وينفذ غارات”.
ويضيف “دفناها سريعاً ولم نتمكن من وداعها”.
في السابق، كان أهالي القرية يتجمعون كلها لوداع الميت، أما اليوم فبات الوضع مختلفاً، فالمواطنون يخشون الخروج خشية من القصف، كما غادر أساساً الكثيرون منهم ولجأوا إلى أماكن أكثر أمناً في شمال إدلب.
ويشرح باسل الريحاني ” قبل الحرب، كان نصف سكان معرة النعمان يتجمعون لدفن الشخص، أمام اليوم فلا يتواجد سوى أربعة أو خمسة أشخاص من أقاربه”.
يتذكر الريحاني كيف كان يحفر في أحد الأيام قبراً لابن شقيق زميل له في الدفاع المدني، حين جاء أحدهم مسرعاً وطلب منه التوقف، فقد تبين أن والد القتيل توفي أيضاً متأثراً بجروح أصيب فيها جراء القصف.
ويقول الريحاني “كنت أحفر قبراً لشخص واحداً، ثم فجأة وسعته وبات قبر لشخصين، الأب والإبن”.
– “أين الضمير؟” –
أحياناً كثيرة، لا يمكن حتى التعرف على جثث القتلى، فمنهم من تحول إلى أشلاء ومنهم من اختفت معالمه نتيجة الحروق. وغالباً ما يتم دفن ضحايا القصف من عائلة واحدة في مقابر جماعية.
في قرية كفر عويد، وبدلاً من الاحتفال بعيد الفطر الأسبوع الماضي واستقباله بالتهاني والمعايدات، وجد أهل القرية أنفسهم في المقبرة.
تجمع بضعة أشخاص لدفن أقارب لهم من ضحايا القصف الجوي الذي سقط ضحيته عشرة أشخاص. يواسي أحدهم صديقاً له، يعانقه باكياً وقد لونت بقع الدماء عباءته الرمادية.
تحفر جرافة في التراب الأحمر حفرة كبيرة، وداخلها يضع رجال حجارة على شكل أربعة قبور متجاورة، قبل أن يأتي آخرون يحملون القتلى على كراتين او في شراشف ملونة.
يضع الرجال أربعة من الضحايا في هذا القبر الجماعي قبل أن تبادر الجرافة بنثر التراب فوقهم.
تحت شجرة قريبة، تتجمع عائلة حول صندوق كرتون صغير وفي داخله أشلاء الطفل يامن، البالغ من العمر أربع سنوات فقط.
يتربع جد الطفل إلى جانب الصندوق يمسكه بيديه ويصرخ “أين البشر؟ أين الضمير؟ أين الأخلاق؟”.
(أ ف ب)