أمنيات أخيرة / ميس داغر

أمنيات أخيرة

في زاوية واحدٍ من الملاجىء القليلة التي لم تُقصف بعد، انزوى السيد حقّي وزوجته وابنه الشاب. آمنوا أنهم إلى الموت لا محالة، فتقوقعوا على أنفسهم في انتظاره. تفاجئوا من أنّ الشعور الحقيقي للإنسان في اللحظات الأخيرة قبل الموت يختلف تماماً عمّا كانوا يعتقدون. كأنّ غمامة من السكينة تظلّل النفسَ، فتكشفُ عن أصدق بقعةٍ فيها، وتنزع أي شعورٍ لديها بالخوف.
في وسط الصمت الذي جثم بينهم منذ ساعات، بادر السيّد حقّي، الرجل الرزين أبيض الشعر الذي كان يعمل قاضياً في محكمة، إلى الإدلاء باعتراف أمام زوجته وابنه. كحّ مرتين ثم قال: لم أندم على أمرٍ يوماً أكثر من ندمي على العمل فوق كرسيّ المحكمة الحقير. الانغماس في تنفيذ ما أعلم يقيناً أنه مرسومٌ بفعل القوة وليس الحق، هو ما قتلني أولاً قبل صاروخ الأعداء الذي سيقتلني خلال لحظات. لو كان لي أن أتمنى شيئاً في هذه اللحظات، لتمنيتُ لو أنّني لم أعرف يوماً ذلك الكرسيّ الدنىء، الذي كسر ظهري.
بمجرد أن أنهى السيد حقّي كلامه، ارتجّ الملجأ بفعل قصفٍ قريب، مما زاد الجميع رغبةً في إتمام حكاية الاعترافات هذه. قال الابن، الشاعر الوطنيّ الواعد: قلتُ كثيرا، خطّت يدي أبيات شعرٍ غنائية عظيمة للوطن، ولم أجرّب يوماً أن أفعل له شيئا. قد أكون الشاب الوحيد في هذا الملجأ، فمن هم في عمري الآن إمّا قَضَوا نحبهم، أو يقاتلون على الجبهات. هل يُفيد الآن أن أقول يا ليتني فعلتُ كذا وكذا!.
ثمّ وضع الابن الشاعر رأسه بين كفيه مهموما. فيما أخذت والدته، السيدة حكمت، نفساً عميقا، ورفرفت بجفنيها بما يشبه رفرفة جناحي طائرٍ جريح، ثمّ قالت باستهزاء: أمنيات! .. ومن أنا كي أجرؤ على التمنّي!
ثمّ رفعت كفّها كتحية العلم، وأردفت: تعظيم سلام إلى الأمنيات!! وما هو معنى الأمنيات وأنا أوقن أنني لو متّ، ثمّ عدت إلى الحياة ألف مرةٍ بعد الموت فإنني سأُسيّرُ في الطريق ذاته!
ثمّ استطردت كأنما هي في نوبة هلوسة: تخيّلا لو أنني عدتُ بعد الموت إلى الحياة. إنّ الشيء الوحيد الذي سيختلف في حياتي وقتئذٍ هو جودة الطبيخ! فأنا اكتسبت في حياتي هذه خبرةً في الطبخ تمكنني من أن أطبخ على نحوٍ أفضل في أية حياة أخرى!
سرعان ما ضربت صواريخ الحرب ما تبقى من ملاجىء. ارتجّ الملجأ بهم أكثر من ثلاثين مرة. كلّ الملاجىء تدمّرت، إلاّ هذا الملجأ، شاءت الأقدار أن ينجو، فينجو كلّ من فيه.
بعد الحرب تغيّر الثلاثة. لقد تغيروا بالفعل. فظهرُ السيّد حقي صار في حالٍ صحيٍ أفضل، بعد أن استبدل كرسيّ المحكمة الحقير بآخر غير حقير. فيما كفّ ابنه الشاعر يده اليمين عن كتابة أبيات الشعر الغنائية، وأطلق يديه الاثنتين في نظم القصائد الملحمية.
أمّا السيدة حكمت، فقد عادت مغتبطةً إلى مطبخها. وأثبتت أنها كانت أكثرهم واقعيةً في الحديث بشأن أمنياتها. فقد برهنت للجميع أنّ أوّل طبخة لها بعد النجاة، كانت ألذّ من أية طبخة سابقة.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى