أفلام تسببت في قتلِ أصحابها

سواليف

كيف يكون الموت عقاباً أبدياً؟ يتداول الكثير بشغف أخبار نهايات الشعراء، ليس كل النهايات، ولكن النهايات المأساوية لأولئك الذين قُتلوا بسبب فنهم، ومن أشهرها قصة موت المتنبي الذي صار صريع شعره، وقاده لسانه إلى موته، رغم أن البعض يرفض هذه النهاية للشاعر المتنبي، خصوصاً أن الأبيات التي تسببت في قتله ضعيفة فنياً وسطحية وتكاد تخلو من كل الجماليات الإبداعية.

هناك طريق يؤدي إلى الموت، خطوة يختارها الفنان تقوده إلى موتهِ، على اعتبار أن الفن بطبيعته مجرد وسيلة تعبير، الفنان يخرج من ضيق الدنيا بخيال لأنه أوسع من الوجود، ويتميز بالقدرة على التعبير عن خيالاته، والتعبير عما يشعر به الناس.

في بعض الحالات يقع الفنان في صراع مع الحدود التي لا يستطيع تجاوزها، وتكون ممارسة الحرية قاتلة؛ لأنه تجاوز مرحلة الحدود حتى صار دون أن يدرك خارج دائرة المقبول الاجتماعي مثل الإيطالي بيير باولو بازوليني، وفي بعض الحالات استخدام الفن لتصوير الفوضى الاجتماعية التي جعلت العالم يعيش داخل دائرة عبثية، فيدخل ضحية هذه الدائرة الفوضوية مثل اليوناني ثيو أنجيلوبولوس، أو في حالات نادرة يقترب الفنان بروحانية من الحياة، فيحاول ممارسة فنه للتحذير من الشر المحض، والتقدم الحاصل في صناعة الأسلحة النووية حتى تلتهم الذرات القاتلة روحه مثل الروسي آندريه تاركوفسكي.

وفي حالات أخرى تكون البيئة استبدادية، وتكون حرية التعبير جريمة، وشراً لا بد من نحره، كما يحدث في كثير من الدول المتخلفة، على سبيل المثال في إيران تتخذ الحكومة موقفاً قمعياً ضد الذين يرفضون تصدير أيديولوجية الثورة الخمينية، فمثلاً المخرج محمد رسالوف من مواليد مدينة شيراز، أشهر أفلامه بعنوان “جزيرة الحديد”، في أفلامه يسلط الضوء على أقليات عربية وأذرية وكردية، ولكنه وقع في فخ السلطة القمعية، وتم حجزه بتهمة التصوير بدون ترخيص، وتم الحكم عليه بالمنع من السفر خارجياً، والتوقف عن ممارسة المهنة، والسجن سبع سنوات.

وبطريقةٍ مشابهةٍ في عام 2010 تم القبض على المخرج جعفر بناهي، وهو يقوم بصناعة فيلم، وتم الحكم عليه غيابياً بالسجن مدة ست سنوات، والمنع عن ممارسة التصوير وكتابة السيناريو لمدة عشرين سنة، والحجة صناعة بروباغندا تحرض على إيران، لكنه بفطرته السينمائية لم يستطِع التوقف وقام بصناعة فيلم بعنوان “هذا ليس فيلماً” بكاميرته اليدوية الخاصة، وتم حفظ الفيلم داخل ذاكرة صغيرة مخبأة وسط كعكة بيتية، حتى وصلت هذه النسخة الوحيدة من الفيلم إلى مهرجان كان السينمائي تهريباً، ونالت قضية بناهي تفاعلاً كبيراً وتضامناً عالمياً.

وفي تركيا في السبعينات الميلادية سُجن المخرج يلماز كوني ظلماً بتهمة قتل ناشط سياسي يميني رغم عدم وجود أدلة، والسبب الحقيقي هو مواقفه السياسية، وهو كردي من الطبقة العاملة، الكادحة، وسينمائي بفطرته؛ حيث كان من زنزانته في السجن يقوم بممارسة تأليف السيناريو، وكان يقوم بإخراج أفلامه، وتوجيه الكادر عن كيفية تصوير اللقطات وأدائها، وبالتعاون مع عدد من أصدقائه تم تهريبه من السجن والسفر به إلى فرنسا؛ حيث مات بعدها بفترة قصيرة بسبب المرض.

نعود للمستوى الأعمق، للموت بسبب الحرفة، والموت فداء للسينما، والموت في سبيل إتمام العمل الفني، نعود لنماذج عن مخرجين ماتوا بسبب أفلامهم.

أقرب السينمائيين إلى غاية الوجود هو الظاهرة الروسية آندريه تاركوفسكي، مؤسس السينما الشاعرية، والده الشاعر آرسيني تاركوفسكي الذي ترجم العديد من شعر وأدب جليس المحبسين أبي العلاء المعري من العربية إلى الروسية، تاركوفسكي عندما كان في الجامعة تخصص في قسم الثقافة العربية والأدب الإسلامي، وبعد مرور سنة قام بتغيير تخصصه إلى سينما وصناعة أفلام.

مسيرته الفنية حافلة بالنجاحات، لم يصنع سوى سبعة أفلام طويلة محاولاً فيها استكشاف الآفاق الروحية الرحيبة، الوجود كشجرة مثمرة تتطلب منا الاعتناء بها والحفاظ عليها، في أول أفلامه ابتدأ بلقطة لشجرة وآخر أفلامه انتهى بلقطة لشجرة، بلغ تاركوفسكي مكانة مرموقة داخل أوروبا وخارجها رغم قلة أفلامه، ويتمتع بشعبية واسعة جداً، ويعتبر من أهم صناع الأفلام في التاريخ، أبرز أفلامه “طفولة إيفان” و”آندريه روبليوف”، و”سولاريس”، والمرآة”، و”الحنين”، و”القربان”.

تاركوفسكي بدأ صناعة الأفلام في الستينات الميلادية، تحت سلطة الاتحاد السوفييتي، ثم وقع ضحية الظلم والاستبداد الشيوعي، يحكي في مذكراته الخاصة قصصاً عن قلق العيش داخل الاتحاد السوفييتي، وعن معاناته مع الجواسيس بشكلٍ يبعث في النفس شعوراً بالقنوط، ومراقبته، وتوقيفه عن العمل، ومنع أفلامه، ونفيه خارج موطنه، رغم أن جميع أفلامه تحمل العمق الأدبي التاريخي الروسي العريق، في السينما يعتبر آندريه تاركوفسكي امتداداً لأدب ألكسندر بوشكين، وفيودور دوستويفسكي، وليو تولستوي.

في أواخر السبعينات قام تاركوفسكي بصناعة فيلم بعنوان “الدليل/ستالكر”، الفيلم عن منطقة اسمها “ذا زوون” تتحقق فيها فقط أصدق الأمنيات، ولكن كيف نعرف ما هي أصدق أمنياتنا التي نود تحقيقها؟ كيف نختار الأمنية الوحيدة؟ شخصيات الفيلم الرئيسية ثلاثة رجال بلا أسماء، وهم أولاً الدليل: المرشد الذي يقود الناس نحو المنطقة التي تتحقق فيها الأمنيات، وثانياً الفيزيائي: بروفيسور أكاديمي جامعي، وثالثاً الكاتِب: وهو مؤلف يبحث عن الإلهام.

تم تصوير الفيلم في منطقة حدثت فيها تجارب نووية، نرى تأثير التجارب على الطبيعة، حتى أصبح اللون الأخضر لا يعني الحياة والاطمئنان؛ لذا بدت ألوان الفيلم على مستوى غريب من القتامة البصرية، بشكل صادق نادر تكراره في تاريخ السينما.

النتيجة أن الممثل الذي قام بدور الكاتب، ومديرة تصوير الفيلم، والمخرج آندريه تاركوفسكي، جميعهم ماتوا بنفس الطريقة، ونفس المرض، فأولاً مات الممثل الذي قام بدور الكاتب – وهو صديق مقرب جداً لتاركوفسكي؛ لأن تاركوفسكي هو مَن اكتشفه- ثم وبنفس الداء مات تاركوفسكي في منفاه بفرنسا بعد منعه من العودة إلى وطنه، وبعده بسنوات ماتت مديرة التصوير بنفس المرض وبنفس الطريقة وهي زوجة المخرج آندريه تاركوفسكي، ماتوا جميعاً وأثبتت التحاليل أن سبب الموت هو الترددات الكيميائية والإشعاعات الضوئية التي تعرضوا لها من مكان تصوير الفيلم؛ “ستالكر”.

وتوجد نظرية أخرى بعيدة عن الصواب تقول: إنَّ الاتحاد السوفييتي قام بتسميم تاركوفسكي وقتله.

سينمائياً إذا ذكرنا اليونان يتبادر اسم المخرج ثيو أنجيلوبولوس، أحد أهم رموز السينما، وصاحب تاريخ طويل يمتد إلى قبل ولادته، منذُ زمن الأوديسيات الإغريقية مروراً بالأساطير ووصولاً عند الملاحم الأنجيلوبولوسية، من خلال تجاربه السينمائية التي تعيش في عوالم معقدة شبه فوضوية في اليونان الحديثة، أبرز أفلامه “الأبدية ويوم”، و”تحديقة أوليسيس”، و”غبار الزمن”، و”المرج الباكي”.

روح المغامرة الإغريقية الطويلة انتهت بحادث مأساوي على الواجهة البحرية، تعرض أنجيلوبولوس لحادث دهس بالخطأ من دراجة نارية مسرعة التي تسببت بجروح وكسور في الجمجمة، لقد تحطمت ناصيته – مقدمة رأسه- مما أدى إلى وفاته متأثراً بالإصابة وهو في موقع تصوير فيلمه الذي لم يكتمل بعنوان “البحر الآخر”، وأخذ البحر الآخر روحه بعيداً عنا، ولكن تحفه السينمائية ما زالت باقية، وخالدة، لن تموت.

هذا الحادث يقود لحكاية دهسٍ أخرى ولكنها أكثر عنفاً ومأساوية وجرأة، وهي القصة الأكثر ألماً وحزناً في تاريخ السينما.

بزغت ملامح عبقرية الإيطالي بيير باولو بازوليني في سن مبكرة عندما قام بنشر ديوانه الشعري الأول قبل أن يبلغ العشرين، وقام بكتابة الشعر وتأليف الرواية والرسم والنحت والنشاط السياسي، كان بازوليني شخصاً مثيراً للجدل، ومعروفاً بمواقفه اليسارية الشيوعية، وعدواً للرأسمالية المادية التي تتعامل مع الفن كسلعةٍ تشترى وتباع والجمهور كمستهلك. بازوليني من عائلة برجوازية، وكان والده يعمل لدى الرئيس الإيطالي الفاشي بينيتو موسوليني وقد أنقذ حياة موسوليني من عملية اغتيال.

بازوليني صنع العديد من الأفلام البارزة، أهمها “ماما روما”، وفيلم “الإنجيل حسب القديس متّى”، وفيلم “طيور كبيرة وصغيرة”، وفيلم “ميديا”، وفيلم “أوديب ملكاً”، ثم تلاها بأسوأ أفلامه بعنوان “ليالٍ عربية” المُقتبس من كتاب ألف ليلة وليلة، وفيها قصص تصور العرب على أنهم متعطشون لممارسة الجنس، وتصور حياتهم بطقوس غريبة لأجل إشباع اللذة الذاتية الجسدية مغلفة بغايات أنانية، رغم ذلك تميزت شخصياته في الفيلم بنوع من البراءة الفطرية، الفيلم جميل في لغته السينمائية، ولكن كموضوع يسيء للشعوب العربية؛ حيث إنه يقوم بتنميطهم بصورة واحدة؛ شهوانية.

وبعد فيلم “ليالٍ عربية” مباشرةً اتجه نحو منحى آخر أكثر عنفاً وتحدياً؛ حيث قام بصناعة فيلم بعنوان “سالو: أو أيام سادو المائة والعشرون”، مقتبسة من رواية للكاتب الفرنسي المجنون ماركيز دي ساد بنفس العنوان، أو الذي اتهم بالجنون عن رسائله وقصصه وممارسته الجنسية العنيفة، مصطلح السادية مُشتق من اسم المؤلف دي ساد، بسبب ما يطرحه في أعماله من شرخ يتسبب في صدمة أخلاقية عند المتلقي.

بازوليني في “سالو” كسر كل القيم والمبادئ العامة وطبيعة النفس الأخلاقية، وقام بتصوير كل ما لا يمكن تصويره بلغة سينمائية، وعلى مستوى رفيع من الجرأة قام بتدمير اللذة، وتجاوز حدود الرغبات المعلنة وغير المعلنة عند الإنسان، ليست بالضرورة رغبات جنسية ولكنها تتعامل مع كل مقزز برؤية أخرى تجعل منه أمراً مقبولاً، الدم، العنف، القاذورات في دائرة عبثية، حتى عادت إليه الدائرة وتسبب الفيلم في قتله بطريقةٍ جريئة، ومقززة، وعنيفة، بعد الانتهاء من نشره بفترةٍ قصيرةٍ.

على شواطئ أوستيا في روما، المكان المقرب لنفس بازوليني تم فيه ارتكاب جريمة القتل العمد بصورةٍ بشعة ومؤلمة، حيث تم دهس جسد بازوليني وسحقه بسيارتهِ الخاصة من شاب مراهق عدة مرات، ذهاباً وإياباً، حتى انتهت حياة بازوليني بتعنيف جسدي مؤلم في المكان المقرب إلى قلبه، وبالعنف الذي كان يصف فيه البشر من حوله، وأصبح موته شاهداً حقيقياً على العنف الموجود في العالم، وكان بازوليني الضحية.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى