أفضل السيء”… خديعة العقول في زمن العتمة

أفضل السيء”… #خديعة_العقول في #زمن_العتمة, حين تُختطف #العقول باسم الواقعية

بقلم : المهندس محمود “محمد خير” عبيد

في زمنٍ تآكل فيه الوعي، وخفت فيه بريق الحلم، وذبلت القيم تحت ضجيج الشعارات، بتنا نرضى بـ”أحسن السيء”، ونقنع أنفسنا أن هذا هو أقصى ما يمكن، بل نكاد نقدّسه، ونصفّق له، لأن الأسوأ لا يتوانى عن التلويح بنا من خلف الستار, ها نحن اصبحنا نحيا تحت سنديانة “الأمر الواقع”، وتُدق فوق رؤوسنا مطرقة “الاختيار الأقل ضررًا”، حتى باتت خياراتنا في السياسة، كما في الحياة، محصورة بين السيء والأسوأ، لا بين الجيد والأفضل, والأخطر أن هذا المنطق تسلل إلى أعماق وعينا، حتى صارت الشمعة في العتمة كأنها شمس، وصرنا ننسى أننا أبناء حضارة، لا رعايا في كهف مظلم و ان من حقنا نور الشمس كاملا” و ليس ضوء شمعة,

ها هم يخدعونا و نخدع انفسنا كل يوم بعبارة “الأفضل”, ” علينا ان نقبل بالواقع لأنه أفضل من الفوضى حتى لو كتن ذلك على حساب تماسكنا الإنساني, و نجدهم يقولون و نقنع انفسنا بان “هذا الحاكم أرحم من سابقيه، فاصبروا”., كذلك اوهمونا بان “الوضع سيء، لكنه مستقر, أما التغيير فمخيف”., السؤال الذي يطرح نفسه على كل عاقل و حكيم هل هذا هو “الأفضل” الذي نستحقه فعلًا” , هل اصبحنا نطلب النجاة لا الحياة, هل هذا ما نستحقه كبشر قبل ان نكون شعوب, هل اصبحنا نساوم على كرامتنا على فتات الأمن و يعملون على مقايضتنا الوعي براحةٍ زائفة.

السؤال الذي يطرح نفسه من يملك “الأفضل”, ولمن, لقد عاصر ابائنا و اجدادنا و عاصرنا نحن ثورات و حروب أهلية اشتعلت, وانقلابات تتكرر، وشعارات تُرفع وكلّها باسم “الأفضل”., لكن السؤال الذي يطرح نفسه هل كان نتاج هذه الثورات و الانقلابات و الحروب الأفضل للشعوب الجواب لا, ف “الأفضل” دائمًا من نصيب من اعتلى العرش، لا من سار خلف الحلم, كم من قائد جاء باسم الإصلاح، فخنق الحريات بعد أن صعد, وكم من سلطان وعد بالعدل، فزاد في الجور والبطش, وكم من سياسي زعم أنه يحمل التغيير، فمارس أدوات القمع بأسوأ مما سبقوه, إن “الأفضل” لم يكن يومًا لصالح الشعوب، بل امتيازًا عاشه أهل السلطة في قصورهم، فيما ازداد الناس ظلمة، وارتدوا إلى الوراء، حتى تاقوا إلى من كانوا قبلهم.

لذا كفانا تبريرًا باسم “الأفضل”، وهو في الحقيقة مجرد “أفضل السيء”, كفانا تصفيقًا لكل من يُجمل القيد، ويُزين السجن، ويبيعنا وهم النجاة على شكل مهدّئات, هذا المنطق لم يعد سياسيًا فقط, بل تسلل إلى كل تفاصيل الحياة, لم نعد نمارس هذا الخضوع في السياسة فحسب، بل امتدّ إلى حياتنا اليومية، في علاقاتنا، في خياراتنا، في أخلاقنا، وفي ديننا. فها نحن تجدنا في في حياتنا الاجتماعية تجدنا نُجبر على الاستمرار في علاقات سامة، فقط لأننا نقول: “على الأقل، ليس مثل غيره” فترانا نتنازل عن مبادئنا من أجل الاستقرار المزيّف، ونقبل الإهانة من أجل المظاهر، و في العمل نُقنع أنفسنا بوظائف لا تحترم إنسانيتنا، ولا تضمن لنا الكفاف، لأن “البطالة أسوأ”. و في الأخلاق نبرّر الغش، والخداع، والانتهازية، تحت عنوان: “الزمن تغيّر”، و”الجميع يفعلها”. في الدين والروحانية تجدنا نبحث عن من يُخفف عنا، لا من يوقظنا, نُقبل على خطباء يُطربوننا بكلام العاطفة، لكنهم لا يوقظون العقل, نختار من يمنحنا طقوسًا مريحة، لا من يدفعنا للصدق مع أنفسنا, فتجدنا نصنع لأنفسنا دينًا يشبهنا في ضعفنا، لا دينًا ينهض بنا إلى ما يليق بنا, وهكذا أصبحنا سجناء داخل ثقافة تقول لنا دومًا, “علينا ان نقبل بالسيء، فالأسوأ ينتظرنا خلف الباب.”, علينا ان لا نطلب الأفضل، فالحياة لا تعطي الكمال., علينا ان نرضى و لا نجرب و ان لا نحلم كثيرا” لأننا سنحبط, لكن الحقيقة أننا لا نحبط لأننا نحلم كثيرًا، بل لأننا لا نحلم بما يكفي.

ها ترانا نُهزم حين نرضى بالهامش، ونصدّق أن المركز ليس لنا. عقلية تقنعنا بان نرضى بالفتات, لأن العدم ينتظرنا, لكننا ننسى أن الكرامة لا تقبل بالقليل، وأن التاريخ لا يرحم الشعوب التي رضيت بالهامش، وأن الحضارة لا تُبنى بالمقارنة داخل القاع.

لقد أصبحنا شعوبًا لا تطمح إلا للأقل سوءًا, هل عَجزنا عن الإيمان أن هناك دائمًا خيارًا ثالثًا، خيارًا أفضل، خيارًا أنقى، خيارًا إنسانيًا حقيقيًا, هل انحدرنا إلى حد أن نمنح تصفيقنا لمن يمنحنا شمعةً في عتمة، بينما من حقنا أن نطلب شمسًا تضيء وطنًا بأكمله., لقد تحوّلت الساحة السياسية إلى سوق للمقايضات البائسة، نُخيَّر فيها بين من سرقنا، ومن قمعنا، ومن خذلنا، لنختار أقلهم سوءًا كأننا في اختبار لا مكان فيه للكرامة أو الفطرة أو الوعي.

الشعوب لا تطلب الكمال, بل تستحق الأفضل الممكن, نحن لا نحلم بالمثالية، ولا ننتظر ملائكة، لكننا نرفض أن تُفرض علينا الرداءة باسم “الواقعية”., نبحث عن الأفضل الممكن، لا عن الأنسب لمصلحة الأقوياء.

“أحسن السيء” ليس مشروعًا وطنيًا و لا سياسيا” و اجتماعيا”، بل مشروع تخدير جماعي, هو خيانة للعقل قبل أن يكون خيانة للوطن, وكلما قبلناه، تأخرنا خطوة، وسقطنا في دوامة تنازلات لا تنتهي.

السياسي الذي يمنحنا “بصيص أمل” لم يكن و لن يكون في يوم منقذًا، بل جزء من الظلام, المنقذ الحقيقي هو من يعمل على ايقاظ عقولنا، لا من يُخدرها, هو من يُعطينا شمسًا كاملة، لا شظايا ضوء، من يعمل على تقديم مشروعًا لا شعارات، من يحترم انسانيتنا لا كتابعين , “الحق لا يُقاس بالكثرة، بل بالعقل والضمير”.

“أحسن السيء” ليس طريقًا نحو النهضة، بل طريق نحو استسلام مزيّن بلغة الواقع, الرضا بالهوان ليس نضجًا، والقناعة بالخوف ليست وعيًا، والتصفيق للرداءة ليس وطنية, نحن لسنا بحاجة لقادة يعلوا على تخديرنا بشعاراتهم و اوهامهم التي يعملون على بيعنا إياها, نحن بحاجة الى فكر يوقظنا، ومشروعًا يحررنا، وإرادة تعيدنا إلى أنفسنا, فكرامتنا، وتاريخنا، وهويتنا، لا تسمح لنا أن نرضى بالفتات, لقد آن الأوان لنا أن نخرج من المقارنة بين السيء وأحسن السيء، ونبدأ المقارنة بين ما نحن فيه, وما نحن قادرون أن نكونه.

أحسن السيء” ليس رؤية سياسية, بل هزيمة أخلاقية وفكرية, والقبول به ليس واقعية, بل انتحار بطيء للحلم والأمل والمستقبل, نحن لا نحتاج إلى معجزة، بل إلى صحوة, صحوة تبدأ من رفض كل خديعة تُغلّف الرداءة بثوب النجاة, فـ”السيء” لا يجب أن يكون الخيار الوحيد، و”الأفضل” ليس بعيدًا، ما دامت العقول حيّة، والقلوب يقظة، والضمائر حرّة. نحن لا نحتاج إلى من يقنعنا بأننا بخير مقارنة بغيرنا، بل نحتاج إلى من يذكّرنا أن الخير الكامل حقٌّ لنا، لا ترفٌ أو خيال.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى