أعيدوني لكوكب الأرض!‏

أعيدوني لكوكب الأرض!‏
د. علي المستريحي
.

‏كوكب الأرض لم يعد أخضرا، وأصبح مصفرّا شاحبا وموشحا باللون الأحمر وقد نخره الفساد وعاث ‏الفاسدون فيه خرابا من رأسه لأخمص قدمه .. لا عجب أنْ بدأت الحياة تنضب على الأرض كما نضبت ‏قبلها على المريخ وقبلهما على زُحل والمشتري ونبتون، وقد سكنّاها جميعا فيما مضى ردحا من العمر ‏وأفسدناها جميعا. ‏

نحن الآن نستعد للرحيل إلى أورانوس بعد أن ذاب ثلجه وساح جليده وأصبح جاهزا لاستقبالنا للعيش فيه. ‏ذلك أفضل (قلت لنفسي)! فبالرغم من أن رحلتنا لأورانوس يلفها الغيب والمجهول، إلا أن صفحاته بيضاء ‏مثل دفتر رسم طفل يدخل المدرسة أول مرة، فيرسم عليه ما يشاء .. على الأقل سنتخلص من حكومتنا ‏‏”الرشيدة”، وضرائبها وفواتيرها المجنونة، ونفاقها وتدليسها وسطوها على الناس، وسنفلت من تحكّم التجار ‏وشركات الاتصالات التي لا تشبع! فهناك في الكوكب الأبيض الناصع لن نجد في فواتيرنا بند فرق ‏المحروقات أو دينار ندفعه لتلفزيون الميرمية وقد نسيناه ونسانا منذ آلاف السنين .. في أورانوس لن نجد ‏حكومة تسمي نفسها حكومة “النهضة” تسجن الأحرار وتلاحق المعلمين كلما دخلوا غرفة الصف وحملوا ‏طبشورة .. لن نجد فيه حكومة تدخل كل بيت تحمل مسطرة في جيب قميصها مثل مشط عزّوز، تستلّها ‏لتقيس فيها ألسنة الناس فتقلمها كلما طالت حتى لم يعد للناس ألسنة .. بأورانوس لن نجد حكومة تخفّض ‏المحروقات كل سنة تعريفة وتوظف وزيرا كل مهمته أن يجلس إلى جانب “الراوتر” طيلة يومه يراقب ‏نبض الناس فيقطع الانترنت عنهم كلما تنفسوا.. وعلى ذلك الكوكب لن نجد شيوخ “الكبّة” ولا قانون ‏الصوت الواحد والقوائم الوهمية ولا مالا أسودا لنواب يدفعون الرشاوى ليتربعوا على أكتاف الناس ‏ويصفقون لكل من ينهب الوطن .. هناك على الكوكب الجديد لن نجد تهربا ضريبيا وحسابات وهمية ولا ‏ملاذات آمنة .. وليس بذلك الكوكب الأبيض الجديد كيان صهيوني سارق وفلسطين مسروقة وعرب ‏مشردون ..

ياااه! كم هي رحلة الانعتاق مثيرة ومفعمة .. إنها رحلة الخلاص وطوق النجاة إلى كوكب أبيض جديد ‏بتاريخ جديد نكتبه كما نشاء!‏

مقالات ذات صلة

‏جلسنا ننتظر هبوط المركبة الفضائية التي تشبه سفينة نوح لتحملنا إلى الكوكب الجديد، والراغبون بالسفر ‏هم جميعهم من الحالمين بعالم أفضل ومستقبل تلونه البراءة والنقاء. ‏

نسمع الآن منادٍ يصيح: “حَضَرت المركبة .. هيا استعدوا .. فرصتكم الأخيرة للخلاص .. هيا إلى ‏أورانوس”! ‏

هجم الملايين على المركبة كهجوم الركاب على باصات صويلح-الجامعة بيوم شتوي عاصف .. لا أعرف ‏كيف حالفني الحظ أن أكون من بين المسافرين على متن تلك الرحلة .. لكني لم أدرك عدد الحالمين ‏بالخلاص من كوكب الأرض من الأردنيين إلا تلك اللحظة! ‏

انطلقت المركبة بجنون وقطعت آلاف السنين الضوئية حتى أصبحنا نطوف فوق أورانوس .. نظرت من ‏نافذة المركبة، فرأيت ما يشبه الأرض، تماما بكل تفاصيلها، بتضاريسها وجبالها وبحارها ووديانها! الأرض ‏التي تركناها خلفنا إلى الأبد .. رأيت ساقا بكرة قدم .. هذه إيطاليا .. رأيت ما يشبه السنجاب منتصب القامة ‏‏.. هذا هو البحر الأحمر .. رأيت ما يشبه الكنغر الطائر .. هذه أمريكا الشمالية! فغرقت بحالة من التأمّل ‏والتفكر ببراعة الخالق وحكمته حتى قطع تأمّلي اعلان قائد المركبة: “أعزائي المسافرين على متن خطوطنا ‏الفضائية .. نحن الآن على مشارف أورانوس، نندمج تدريجيا بمدار الكوكب .. راجيا اعلام طاقمنا عن ‏رغبة كل واحد منكم باختيار المكان الذي يرغب الهبوط فيه على الكوكب، راجيا التذكير بأنه لا يمكن ‏اختيار المكان الواحد من شخصين اثنين معا”! ‏

ضجت المركبة بطلبات المسافرين: “استراليا لو سمحت” .. “كندا، أغلّبك” .. “فرنسا لو تكرمت” .. ‏‏”إيطاليا الله يسعدك” .. “غرينلاند اذا ممكن” .. “أمريكا الله لا يهينك!” .. “سويسرا” .. “تايوان” .. ‏‏”الصين” .. حتى نفذت كل الدول “السعيدة” ولم يتبقى من المسافرين بلا اختيار إلاي، فقد أمضيت الوقت ‏أتأمّل باختيارات المسافرين! توجهتْ المضيفة إلي قائلة: “لم يبق إلاّك .. فماذا تختار؟” فصحت عاليا ‏بصوت عفوي: “الأردن .. الأردن”!! حدثت لنفسي أطمئنها: “طالما أنني سأجد البلد كما خلقته أمه، فلا بأس ‏باختياري”! ثم بدأت أحلم كيف سأجعلها أجمل بلد بالعالم، و .. لن أسمح بتكميم الأفواه ولا سجن الأحرار ‏وتلفيق تهم إطالة اللسان لهم ولن أسمح بقطع الانترنت عنهم و..! حلمت كثيرا كثيرا، وكنت منتشيا سعيدا ..‏

قطع ربان المركبة أحلامي، معلنا: “أعزائي المسافرين على متن خطوطنا الفضائية .. بدأنا الآن بالهبوط ‏التدريجي على كوكبكم الجديد .. التاريخ الآن على الكوكب هو 2120 ميلادية، أي بقارق قدره مئة عام عن ‏كوكبكم السابق، كوكب الأرض .. للتو انتهت الحرب العالمية الرابعة على أورانوس .. الأجواء على سطح ‏الكوكب اعتيادية، لكنها مثيرة للغبار الكوني ولبعض الدسائس ومؤامرات التقسيم المعتادة بعد كل حرب ‏عالمية ..”!!‏

كان هذا الإعلان صدمتي الأولى .. لكن قلت لنفسي: “لنأمل خيرا، فبعد مئة عام ربما أصبحنا أسياد الكون ‏الآن”!

تنادي المضيفة: “ركاب الأردن .. الأردن استعدوا” .. ولم يكن غيري ..

حطت المركبة بسقف السيل قريب من سوق الحرامية بين التلال السبعة، وكان يوما ماطرا .. ترجلت من ‏المركبة الفضائية ثم وقفت متجولا ببصري أتفحص المكان، فوقع نظري على لوحة الكترونية كبيرة تقول: ‏‏”حكومة النهضة برئيسها الرفاعي الأبن العاشر ترحب بكم”!‏

حاولت قطع الشارع الرئيسي قاصدا المدرج الروماني، لكن فيضان شبكة الصرف الصحي وقد أغرق ‏المحال التجارية على الجانبين منعني من الوصول .. التجار يناشدون أمين العاصمة والبلتاجي الثامن ‏يصرح أن الشبكة لا تستوعب الفيضان!‏

دخلت مقهى قديم لم يطاله الفيضان وقد اكتظ بالمرتادين، وطلبت قدحا من الشاي وجلست أطالع الأخبار:‏

– ‏”الرزار السادس باستقالته: حكومتي أنجزت 99% من تعهداتها”!‏

– ‏”9 وفيات و14 إصابة بحادث تصادم على الطريق الصحراوي”!‏

– ‏”كوفيد-99 يغزو مصانع سحاب كلها”!‏

– ‏”الأشغال: نسبة الإنجاز بمشروع الباص السريع بلغت 23%”!‏

– ‏”بدء الترشح لمجلس النواب ال 99 وقانون “نصف الصوت الواحد” ثبت نجاعته”!‏

– ‏”تكسير بوابة الجامعة كان بسبب ثأر عشائري سابق بين طلبة”!‏

– ‏”أبو غزالة الابن: الحرب العالمية الخامسة على الأبواب السبت القادم”!‏

– ‏”عباس الابن: لا بديل لمفاوضات السلام مع إسرائيل وهناك مبادرة للحوار بين فتح وحماس”!‏

– ‏”التلفزيون الأردني بذكرى تأسيسه ال 150: للزعتر فوائد عدة”!‏

– ‏”دراسة مهمة لهيئة الإفتاء العالمي: فرشاة الأسنان يمكن أن تبطل الصوم”!‏

– ‏”منصة حقك تعرف: 80% نسبة فساد هي نسبة طبيعية ومقبولة”!‏

– ‏”بعد احتلال فلسطين بالكامل، إسرائيل تستوطن بلوتو وتبني حائط مبكى هناك”!‏

لم احتمل مطالعة بقية الأخبار، فنهضت صائحا مجلجلا: “كوكب الأرض أرحم من كوكبكم .. أعيدوني ‏للأرض .. أعيدوني الآن”!!‏

تسمّر الجميع بلحظة صمت سادت المكان وهم يرمقونني بنظرة استغراب وذهول .. ثم قال أحدهم: “اتركوه ‏وشأنه .. المجانين كثر هذه الأيام”!‏

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى