سواليف
يتفاجأ الطفل يزن عند رؤية المثلجات والبسكويت، وحتى الخبز، ويسارع إلى سؤال والدته عن المأكولات التي يتذوقها للمرة الأولى منذ ولادته في مدينة داريا قبل أربعة أعوام، وهو تاريخ حصارها من قبل الجيش السوري.
وتروي آمنة كامل (38 عاما) والدة يزن، بعد ساعات على وصولها وأسرتها من مدينة داريا إلى مركز إقامة مؤقتة في قرية حرجلة لوكالة “فرانس برس”: “ابني الصغير يزن لا يعرف البسكويت ولا المثلجات، وكلما رأى نوعا منها الآن يتفاجأ ويفرح”.
وتقول، وهي ترتدي معطفا أسود اللون، رغم حرارة الطقس المرتفعة: “حمل قطعة الخبز، وقبّلها، وفرح بالبوظة، وسألني ما إذا كانت تعدّ من الحلويات”، مضيفة بابتسامة خجولة: “عندما رأى البسكويت طار عقله، كيف لا إذا كنا نحن الكبار طار عقلنا”.
يزن هو واحد من أطفال داريا الذين ولدوا بعد حصار جيش النظام السوري في العام 2012 للمدينة الواقعة في الغوطة الغربية لدمشق، وترعرعوا في ظل نقص حاد في المواد الغذائية والخبز على مدى أربع سنوات.
وانتقل هذا الطفل مع عائلته، شأنه شأن الآلاف من المدنيين من سكان داريا، إلى مركز إقامة مؤقت في قرية حرجلة، الواقعة على بعد نحو عشرين كيلومترا جنوب شرق داريا، بموجب اتفاق توصلت إليه الحكومة السورية مع الفصائل المعارضة في المدينة انتهى تنفيذه السبت. ونص الاتفاق أيضا على إخراج المقاتلين وأفراد من عائلاتهم إلى مدينة إدلب في شمال غرب البلاد.
وبينما كانت آمنة تتحدث إلى مراسلة “فرانس برس”، جاء يزن حاملا كيسا يحتوي على الحمص المطحون المعدّ للأكل، ليسألها: “ما هذا؟” فأجابته: “مسبّحة”، قبل أن يضيف: “هل هي صالحة للأكل؟” وعندما أومأت له برأسها إيجابا، ضمّ الكيس إلى صدره وقبّله.
ينفطر قلبي حزنا
تستعيد والدة يزن بحسرة ظروف معيشتها وأسرتها طيلة السنوات الأربع الماضية في داريا.
تقول، ومعالم التعب واضحة على وجهها الشاحب: “كنا نأكل وجبة واحدة، عبارة عن حساء، عند مغيب الشمس، ونبقى دون طعام حتى مغيب اليوم التالي”.
وتوضح: “لم يكن لدينا غاز أو كهرباء.. وكان قلبي ينفطر حزنا لدى رؤية ابني جائعا، وأبكي؛ لأن لا شيء لدي لأطعمه. كان يبكي ويذهب إلى الجيران؛ طلبا للطعام”.
وجراء كثافة القصف الذي تعرضت له المدينة، اضطرت عائلة آمنة إلى البقاء لفترات طويلة في الملجأ. وتروي كيف أنها لم تجرؤ على غرار أمهات كثيرات على إرسال أولادها إلى المدارس؛ خوفا عليهم.
وعلى غرار يزن، اكتشف أطفال هدى (30 عاما) للمرة الأولى الفواكه والخضار، بعدما حرموا منها خلال سنوات الحصار.
وتقول: “اعترت ولداي (3 و5 سنوات) الدهشة حين رأيا البندورة لأول مرة.. حتى أنهما أبديا استغرابهما عندما شاهدا الخبز”.
وعلى رغم الظروف المعيشية الصعبة، لم تكن هدى ترغب بترك مدينتها؛ لعدم قدرتها على تحمل أعباء استئجار منزل، لكنها تقول: “لم يعد لدينا الخيار الآن، فإما المغادرة أو العيش تحت القصف”، معترفة بأنها جلبت معها بعض حجارة داريا “كذكرى من رائحة البلد”، على “أمل العودة يوما ما”.
وعلى غرار مئات العائلات، تقيم هدى بعد خروجها من داريا في مركز إقامة مؤقت يضم أكثر من 300 وحدة سكنية، تفصلها عن بعضها البعض باحات رملية يلهو فيها الأطفال غير آبهين بأشعة الشمس الحارقة.
وعلى مدخل المركز، يصطف المدنيون لتعبئة مياه الشرب من خزان كبير، في وقت ينهمك متطوعو الهلال الأحمر العربي السوري في إفراغ محتويات السيارات المحملة بالفرش والبطانيات وصناديق من الكرتون، تم توضيب المساعدات الغذائية وغير الغذائية فيها.
في الجحيم
ولم تقتصر معاناة أطفال داريا على نقص الطعام فحسب، بل تعدتها إلى التداعيات النفسية؛ جراء سماعهم لدوي القصف والغارات. ويقول عدنان نكاش (47 عاما)، وهو يلف عنقه بفوطة مبللة للتخفيف من تأثير الحرّ: “أصبح لدى ابني رهاب؛ جراء الطائرة”، موضحا: “عندما كان يسمع صوت الطائرة كان يركض ويختبئ، وكذلك حال غالبية الأطفال”.
ويروي الوالد المتعب كيف اضطر مع عائلته للمبيت داخل حفرة على مدى أربعة أشهر. ويقول: “حفرنا حفرة، وكنا ننام فيها نحن الثمانية.. كنا نجلس القرفصاء جنبا إلى جنب؛ خوفا من القذائف”.
ويتابع بأسى: “كانت الحياة صعبة في الداخل، كنا في الجحيم. لم يبق لدينا أعصاب. بتنا نتمنى الموت.. ونحسد الموتى لوفاتهم”.
ويضيف: “عذاب وقلة طعام ودواء”، لافتا إلى انخفاض وزنه من 86 إلى 68 كيلوغراما.
على بعد أمتار من عدنان، شاهدت مراسلة “فرانس برس” لحظات فرح ممزوجة بالحزن عاشتها عائلات عدة بعد فراق جراء الحرب التي تشهدها سوريا منذ منتصف آذار/ مارس 2011.
وتقول ولاء موسى (29 عاما) داخل إحدى غرف مركز حرجلة: “اتصل بي والدي أمس، وقال إنه سيخرج (من داريا). لم أنم الليل بانتظار رؤيته بعد أربع سنوات ونصف من الفراق”.
وتضيف ولاء التي تقيم مع زوجها في حي ركن الدين في دمشق منذ زواجها، قبل بدء النزاع، وهي تمسك يد والدها: “لا أستطيع أن أصف فرحتي.. كان ذلك حلما”.
عربي 21