أسير التقاليد / د. علي المستريحي

أسير التقاليد

كنت في غاية الجدية والالتزام منذ كنت صغيرا: أذهب ماشيا للمدرسة طفلا شاقا طريقي بكل همة ونشاط .. لا ألتفت يمينا أو يسارا، فذلك السلوك عيبا .. لا أجلس أمام دكان، فذلك السلوك عيبا .. ولا أنظر بوجه طفلة من جيلي، فذلك السلوك عيبا .. وكنت لا أغيب عن مناسبة، فأكون من الملتزمين حتى تنتهي .. فالمناسبة لا تكون مناسبة إلا إن كنت أنا موجودا فيها !!

دخلت الجامعة وسكنت حولها، الا أنني كنت لا زلت على تواصل وثيق مع أصدقاء المدرسة في قريتي الصغيرة .. خاصة من الذين اختاروا مستقبلهم بالجيش، فلا يظنون أنني انسلخت عنهم لاختلاف الحياة العسكرية عن المدنية .. فبقيت على تواصل دائم معهم .. ملتزما بحضور مناساتهم، خاصة الزواج منها ..

في أحد أيام نهاية الاسبوع أصرّ صديقي بالجامعة أن أقضي نهاية الاسبوع معه بين أهله بالسلط .. في الوقت الذي تزامن فيه “عرس” أحد زملاء المدرسة في قريتي الصغيرة .. بدا عرض زميلي “السلطي” مستحيلا، لكنه جاذبا لرغبتي الشديدة بالتعرف على أهله وعلى مدينة السلط لأول مرة وقد تحدث عنهما لي كثيرا منذ عرفته .. استحالة العرض تنبع فقط من التزامي بالتقاليد وليس لأن زميل المدرسة هو صديقي المفضل، بل لأنه .. “عيب علي” إن لم أحضر .. تهيأ لي أن زميل المدرسة لن يتزوج إن لم أحضر تحديدا ليلة حنّائه ! فاتفقت مع صديقي السلطي على مرافقته لزيارة قصيرة، أعود بعدها لقريتي الصغيرة .. وهكذا كان ..

مقالات ذات صلة

كان يوما سلطيا رائعا بامتياز .. لكن الوقت أدركني وصديقي يرجوني المبيت .. و .. “غدا سنذهب لسوق الحمام .. و ..” .. إلا أنني أقنعته أن زميل المدرسة لن يتزوج إن لم أحضر تحديدا ليلة حنّائه ! فغادرت السلط متأخرا ..

وصلت قريتي الصغيرة متأخرا أيضا .. كان “العرس” قد انتهى (إلا من تبقى من الحضور الأقربين) .. وفعالية الحناء قد انتهت أيضا، والأولاد يجمعون الكرسي فوق الكرسي بتثاقل شديد .. و .. زميل المدرسة أصبح على وشك انتظار مولوده الأول!! لم يظهر أحد اهتماما بغيابي أو حضوري، ولم يسألني أحد عن تأخري وقد قام العرس وقعد بدوني! وعندما التقيت زميلي “العريس” لاحقا لم يكن حتى يعلم أنني تأخرت ولم أحضر “عرسه” !!

منذ ذلك اليوم أدركت أن التقاليد هي مفهوم ذهني خاص بنا، نضع الحدود والأسوار لأنفسنا ونصبح رهينة لها، عبيدا لها، مأسورين محبوسين فيها .. منذ ذلك اليوم كلما واجهتني التقاليد العمياء، أتذكر أنني أضعت فرصة ذهبية لرفقة صديقي السلطي لزيارة سوق الحمام بالسلط عندما كان هناك لدي متسع للكثير من الضوضاء والتجارب ومساحة من الحياة !! منذ ذلك اليوم وأنا أصارع التقاليد العمياء وأتحدى الخرافات وأقف متحديا الأصنام التي صنعناها بأيدينا .. لم أكسب الكثير من جولاتي، لكن لا زال لدي أمل بزيارة سوق الحمام بالسلط يوما ما مع صديقي السلطي بنشوة الشباب!!

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى