أسرار وكواليس المُصالحة الخليجيّة.. ما هي الصّفقة التي حمَلها وزير الخارجيّة القطري في زِيارته السريّة إلى الرياض؟

سواليف
عندما تصمِت المدافع والصّواريخ قليلًا على مُعظم الجبَهات في حرب اليمن، وتختفي صُور المُحمّدين ولييّ العهد في السعوديّة والإمارات من صَدر الصّفحات الأُولى في وسائل الإعلام القطري، الداخليّة منها والخارجيّة، خاصّةً في لندن وإسطنبول، مَرفوقةً ببعض التّقارير الإخباريّة “المُزعجة” نَقلًا عن صُحف عالميّة، ويسود القلق صُفوف قادة حركة “الإخوان المسلمين” العالميّة وكوادِرها في المنافي، وتتحوّل قناة “الجزيرة” إلى “المهنيّة” فجأةً في تغطيتها للشّأن الخليجي بَعيدًا عن الأفلام الوثائقيّة الحافِلة بالأسرار “غير الطيّبة” في الشؤون الداخليّة “لدول المُقاطَعة”، فاعلم أنّ جُهود المُصالحة بدأت تنشَط في الغُرف المُغلَقة، وتُحقّق بعض الثّمار.
السعوديّة تتصرّف دائمًا في تعاطيها مع الدول الخليجيّة الأُخرى وزعاماتها بأنّها “الشّقيق الأكبر”، وأنّ الأشقّاء “الصّغار” في المساحة، والتّأثير، والحجم السياسيّ والقبَلي، حسب وجهة نظرها، يجب أن يحفظوا هذه الحقيقة عن ظهر قلب، ويرسُمون خُططهم، وتحالفاتهم، السياسيّة والاستراتيجيّة والاقتصاديّة على هَديِها، وأيّ مُحاولة للتمرّد ستُواجَه “بحزم”، ولن يتوقّف هذا “الحزم” حتى يعود المُتمرِّد إلى بيت الطّاعة السعودي.
هذه “القاعدة الذهبيّة” التي ذَكرناها آنِفًا هي التي يُمكِن أن تُلخِّص الخِلافات الخليجيّة، الحاليّة والسّابقة، أمّا غير ذلك من أسبابٍ، مِثل الإرهاب، ودعم حركة “الإخوان المسلمين”، أو تجاوز قناة “الجزيرة” الخُطط الحمراء، فكلّها أعراض جانبيّة، وليسَت المَرض الأساسي، ومن يقول غير ذلك لا يَعرِف الخليج ودوله وجينات زعاماته.
الأنباء الرّائجة هذه الأيّام تتحدّث عن زيارةٍ سريّةٍ قام بها الشيخ محمد بن عبد الرحمن آل ثاني، نائب رئيس الوزراء وزير الخارجيّة القطري، إلى الرياض الشهر الماضي، وكانت صحيفة “وول ستريت جورنال” الأمريكيّة المُقرّبة من أوساط وليّ العهد السعوديّ كشفت عنها، وأكّدتها وكالة “رويترز” العالميّة، حيث قالت إنّ جُهود المُصالحة السعوديّة القطريّة التي ترعاها كُل مِن الكويت وسلطنة عُمان بدعمٍ أمريكيّ تُحقِّق تَقدُّمًا مَلحوظًا، وربّما حَقّقت اختِراقًا كبيرًا، لسببٍ بسيطٍ لأنّها تتجاوب بشَكلٍ صريحٍ مع “الأنا” السعوديّة، وتُحَقِّق أبرز شُروط الشّقيق “الأكبر”، أيّ أنّ الأخ “الصّغير” هو الذي ذهَب إلى مرابع الشّقيق الكبير حامِلًا معهُ عَرضًا بإنهاء الخِلاف، والمُصالحة بالتّالي.
نعود إلى الوراء قَليلًا، ونتوقّف عند مُبادرة قطريّة مُماثلة، أقدم عليها الشيخ تميم بن حمد، أمير دولة قطر، عندما بادر بالاتّصال بالأمير محمد بن سلمان، وليّ العهد السعوديّ، بتَوصيةٍ من الرئيس الأمريكيّ دونالد ترامب، فأذابت هذه المُبادرة مُعظم ثُلوج الخِلاف القطريّ السعوديّ في دقائقٍ مَعدودةٍ، وجرى تشكيل لِجان، وترتيب لقاءات للمسؤولين في الجانبين، دون أيّ ذكر للمطالب الـ13 التي طرَحتها دول المُقاطَعة الأربع وأبرزها إغلاق قناة “الجزيرة”، ولكنّ طَرفًا “ثالثًا” دخل على خطّ هذه المُبادرة، ونعرفه جيّدًا، أغضب السعوديين ونسَفها من جُذورها، ممّا أوحى للقائمين على قناة “الجزيرة” بعدم الإشارة إلى أنّ الأمير تميم هو الذي بادَر بالاتّصال، وانهار كُل شيء بالتّالي، وبدأت الغضبة السعوديّة تتفاقم، وجاء ردّ “الجزيرة” على هذه الغضبة مُؤثِّرًا، وباقِي القصّة معروفة.
لا نعرف من التَقى الشيخ محمد بن عبد الرحمن من المسؤولين في السعوديّة، ولكن الأمر المُؤكّد أنّ الأمير بن سلمان كان على رأسهم، فهو صاحب الكلمة الأولى والأخيرة في هذا المِلف، ومن الواضح أنّ تراجُع الدولة السعوديّة وحُلفائها عن مُقاطعة دورة الخليج الكرويّة الحاليّة هو أحد ثِمار هذه الزّيارة الأوّل، ولكن من الصّعب الإغراق في التّفاؤل، فمقالةٌ عابرةٌ، أو تصريحٌ نشاز، أو تدخّل طرف ثالث، وما أكثر الأطراف الثّالثة، يُمكن أن تَنسِف كُل شيء.
هُناك فرصة جيّدة للمُصالحة السعوديّة القطريّة، وأنّ الطّرفين أُنهِكا فِعلًا، ولم يَعودا قادِرَين على الاستمرار في التّصعيد، وربّما إنهاك الطّرف السعوديّ هو الأكبر، بالنّظر إلى تورّطه في حرب اليمن، وهجَمات الحوثيين على مُنشآت أرامكو النفطيّة، وتراجُع قيادته للعالم الإسلامي، ودوره الإقليميّ، واهتِزاز صورته في العالم بعد جريمة مقتل الصحافي جمال خاشقجي البَشِعَة، وتَفاقُم الأعباء الماليّة التي أنهكت الخزينة السعوديّة، وقلّصت احتياطاتها بشكلٍ لافتٍ، وما خطوة بيع حصّة في شركة أرامكو إلا أحد الأدلّة.
من الصّعب علينا التكهّن بالخُطوة المُقبلة في هذا المِلف، ولكن ما نعرفه أن الزّيارات السريّة تقود أو تُمَهِّد عادةً للقاءات علنيّة، فهل سنرى الأمير تميم في مطار الرياض حاظِيًا باستقبالٍ “فخم” من مُضيفيه السعوديين لحُضور القمّة الخليجيّة التي ستُعقَد مُنتَصف الشّهر المُقبل؟
لا أحد يملك الإجابة، فهُناك من يُؤكِّد أنّ نقل القمّة من أبو ظبي إلى الرياض جاء من أجل هذا الغرض، بحيث تكون القمّة الخليجيّة تتويجًا للمُصالحة، والأمر الآخر أنّ قطر بدأت تُدخِل الكثير من التّعديلات على سِياساتها الإقليميّة، وأبرزها الإعلان الأمريكيّ عن عَزمِها الانضمام إلى الحِلف الجديد لحِماية المِلاحة البحَريّة في الخليج، الذي تتزعّمه أمريكا، ولُوحِظ أنّ الأمير القطريّ لم يَخرُج إلى المطار لاستقبال الرئيس التركي رجب طيّب أردوغان أثناء زيارته الأخيرة للدوحة.
الاستقبال الاستثنائي “المُلوكي” للأمير محمد بن سلمان أثناء زِيارته إلى أبو ظبي قبل ثلاثة أيّام، وإطلاق 21 طلقة، وتحليق طائرات حربيّة في الأجواء أثناء وصول طائرته، ووجود الشيخ محمد بن زايد على رأس مُستقبليه، كلها تعكِس وجود خِلافات، وليس قوّة علاقات، أو هكذا نفهمها، والتَّأزُّم هُنا مردوده أنّ المُصالحة التي يجري التّخطيط لإتمامها هي ثُنائيّة سُعوديّة قَطريّة في فَصلِها الأوّل، وربّما الأخير، أيّ أنّها تستثني الإمارات ومِصر، وهذا ما يُفَسِّر زيارة الرئيس عبد الفتاح السيسي المُفاجِئة للإمارات والأوسِمَة والدّعم المالي (20 مِليار دولار استثمارات) التي حصَل عليها أثناءها.
مصادر تونسيّة عالية المُستوى، ومُقرّبة من الجانب القطري، أكّدت لنا، ونَقلًا عن جهات رسميّة قطريّة أنّ الأمير تميم لن يزور الرياض ولن يُشارك في القمّة الخلجيّة بالتّالي، لأنّ هُناك عثَرات في طريق المُصالحة دون إعطاء المَزيد من التّفاصيل، ولكنّ قرار المُصالحة استراتيجي، وعلى أعلى مُستوى، وما كان يَصلُح في الأمس لا يَصلُح لليوم، حسب ما ذكر لنا مصدر خليجيّ عندما طلبنا منه تَوضيحًا.
هُناك نظريّة تقول إنّ الأُمور مُرشّحةٌ للعودة إلى مرحلة ما قبل القطيعة والمُقاطَعة، أيّ تقارب سعوديّ قطريّ “بارد”، وتصعيد قطريّ إماراتيّ في المُقابل، إلا إذا حمل وزير الخارجيّة القطري تغييرًا في موقف بلاده تُجاه الإمارات، حيث تَرفُض القيادة القطريّة أيّ لقاء مع نظيرتها الإماراتيّة بسبب الخُروج عن كُل الخُطوط الحمراء في الحمَلات الإعلاميّة المُتبادَلة، والخوض في الأعراض والمُحرّمات، مِثلَما تُؤكِّد المصادر المَذكورة آنِفًا.
التّقارب السعوديّ القطريّ إذا تمّ بَمَعزلٍ عن إشراكٍ حقيقيٍّ مُماثلٍ لكُل من الإمارات ومِصر فيه، ربّما يُعطِي نتائج عكسيّة أكثر خُطورةً، ومِصر السيسي لن تقبَل إلا باحترام قطر لـ”الأنا” المِصريّة أيضًا، وتقديم رأس حركة “الإخوان المسلمين” المُعارضة على صينيّة ذهبيّة إليها، أو قطع كامل للعُلاقات معها على الأقل، وتَجِد دَعمًا من الإمارات في هذا الصّدد.
القَلق الإخواني مَشروعٌ، وكذلك نظيره التركيّ، لأنّ تركيا والإخوان ربّما يكونا أبرز الخاسِرين من هذه المُصالحة في حال إتمامها، ولا نملك مِثلَهُما غير الانتِظار والمُراقبة.. واللُه أعلم.

المصدر
رأي اليوم
اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى