أردوغان الحائر بطائرته.. كيف أحبط انقلاباً على طريقة السبعينيات؟

سواليف

لم يدر بخلد أهالي إسطنبول، أن إغلاق الجنود لجسر البوسفور أمام المرور حوالي الـ10:30 ليلة الجمعة 15 يوليو/تموز 2016 أنه انقلاب، بل ظن معظمهم في بادئ الأمر أن ثمة تهديداً إرهابياً، أو أن عملاً إرهابياً وقع بالفعل، خاصة أن ذكرى مذبحة “جهادية” في المطار حدثت مؤخراً، ما زالت حاضرة لم تغب عن الأذهان.

لكن بعد 20 دقيقة وردت أنباء عن إطلاق نار في العاصمة أنقرة فيما صمت الرئيس التركي رجب طيب أردوغان ، صمتاً غريباً غامضاً وامتنع المتحدثون باسمه عن الإدلاء بأي تعليق.

تقرير لصحيفة الغارديان تحت عنوان: سرد لأحداث محاولة انقلاب تركيا الأخير، أشار إلى أنه كان يعتقد أن فترة الانقلابات العسكرية في تركيا قد ولى زمانها إلى غير رجعة، فآخر انقلاب (كان الرابع من نوعه) وقع عام 1997.

وأشار التقرير إلى أن نظام حكم تركيا الإسلامي له نقاده العلمانيون، لكن العديدين شعروا أن الرئيس رجب طيب أردوغان تمكن عبر الزمن من ترويض الجيش وكسب ولاء غالبية الشعب. لكن مع تنامي حيرتهم ليلة الجمعة 15 يوليو/تموز 2016، بدأ كثيرون يتساءلون: لماذا أغلق الجسر؟

تهكم علماني من الانقلاب

على طرف المدينة كانت آصلي آيدن طاشباش تقيم حفل عشاء في حي إيتيلير العلماني استضافت فيه عدة صحفيين ورجال سياسة. تروي آيدن طاشباش ما دار حينها فتقول “فتساءل أحدهم: لعلّه انقلاب؟ فضحكنا جميعاً لأن التعليق كان واضحاً أنه نكتة، فذلك الزمن ولى إلى الماضي الغابر”.

لكن الصدمة الأولى سرعان ما نزلت على الأجواء، فبعد الساعة الـ11 ليلاً ظهر رئيس الوزراء التركي بن علي يلدرم على شاشة قناة NTV التركية الخاصة ليقول أن جزءاً من الجيش حاول تنفيذ انقلاب على قيادة الجيش العليا قبل أن يؤكد سيطرة الحكومة على الوضع بالقول “مازالت الحكومة التي انتخبها الشعب ممسكة بزمام السيطرة، ولن تذهب إلا حينما يأمرها الشعب بذلك”.

المواطنون يخزنون المؤن

لكن سير الأمور لم يبدُ في صالح الحكومة؛ أولاً لم يكن الرئيس على رأس عمله ولم يتمكن من الوصول إلى كاميرا تلفزيونية يدلي من خلالها تصريحاته، كما أن المتحدثين باسمه لم يؤكدوا أمر سلامته؛ حتى أن الرعب الذي ساد دفع بعض المواطنين إلى الهروع إلى المحال والمتاجر وآلات الصرف الآلي للتزود بالنقود والغذاء والماء.

مضى مخططو الانقلاب في تعبئتهم ونشروا الدبابات والمركبات العسكرية في أنحاء أنقرة واسطنبول حيث أحكموا سيطرتهم على مطار إسطنبول الرئيسي، وبالتزامن مع هذه الأحداث أصدر قادة الانقلاب خطاباً للشعب أذاعوه حوالي الساعة 11:30 ليل الجمعة أعلنوا فيه أنهم انتزعوا زمام السيطرة على البلاد حفاظاً على النظام الديموقراطي وغيرةً عليه.

أما مكتب الرئاسة فأعلن أخيراً في الساعة 11:40 ليلاً سلامة الرئيس أردوغان لكن دون تأكيدات عن سلامة أهم حلفائه في الحكومة، ثم ما لبث بعد إعلان سلامة الرئيس بـ10 دقائق، أن ورد خبرٌ عن اختطاف القائد الأعلى للجيش التركي.

انتصف الليل وبدأ يوم السبت 16 يوليو/تموز 2016، وبدا أن السيطرة فعلاً خرجت من يد الحكومة المنتخبة، حيث اقتحم جنود الانقلاب مقر حزب “العدالة والتنمية” في إسطنبول.

أما في أنقرة فاقتحم الانقلابيون مكاتب شبكة الإذاعة والتلفزيون الرسمي TRT وخلال دقائق أجبروا مذيعة الأخبار على إعلان تولي الجيش قيادة تركيا، رداً على إخلال الرئيس إردوغان بنظام الحكم العلماني. في كل تلك الأثناء صمت القادة الدوليون صمتاً مريعاً.

أخطاء فادحة

ظل الرئيس إردوغان غائباً عن أجواء البث التلفزيوني المباشر، وبدا أنها كانت نهاية الرئيس المحاصر؛ لكن قادة الانقلاب من بعدها خطوا عدة خطوات خاطئة أفشلت مخططهم كله.

أولاها كان أن الرئيس أردوغان تمكن من الهروب من مخبئه قرب مرمريس التي كان فيها.
يقول دوغو إرغيل الخبير السياسي في جامعة أنقرة “لقد كان مكان وجود أردوغان معروفاً، وقصِف ذلك المكان لكن قصفه أتى لحظة غادره الرئيس”.

بالتالي تمكن السيد أردوغان من بث رسالة إلى مؤيديه عبر وسيلة غير رسمية هي تطبيق محادثة فيديو هاتفي نقله أثير محطة الأخبار CNN Türk على الهواء مباشرة، قال فيه الرئيس “أهيب بالشعب التركي أن يتجمّع في الساحات العامة والمطارات لأنه ما من قوة أمضى من قوة الشعب”.

نداءٌ وهتافٌ تردد صداه في أرجاء البلاد، فقد دبت الحمية في دماء مؤيدي الرئيس أردوغان الذين هبوا بالآلاف إلى الشوارع وتدفقوا زحفاً إلى مطار إسطنبول. كذلك تتابع ظهور أنصار الرئيس على الشاشات التلفزيونية الخاصة، معلنين أن زمام السلطة ما زال بيد الحكومة، ما زاد كم الزخم الذي شحن الأجواء.

لعل تلك كانت اللحظة التي بدأ فيها الانقلاب يتزعزع، فقد ظن قادة الانقلاب أن إعلان توليهم السلطة على شاشة TRT سيفي بالغرض فيما تركوا قنوات التلفزيون الخاصة في حال سبيلها.

تقول آيدن طاشباش “كان انقلاباً من طراز قديم من حقبة السبعينيات، فقد جاءوا بمذيعة قرأت بيانهم عبر أثير التلفزيون الرسمي، فيما أغفلوا وجود 15 شبكة قنوات إخبارية أخرى تبث وتعمل”.

القرن الأول الهجري والـ21 الميلادي يتحالفان..

أخيراً جاء أحد أقدم وسائل الإعلام قاطبة: صوت الآذان. تقول آيدن طاشباش “لقد تحركت المساجد وانطلقت أصوات الآذان تصدح في غير وقتها، ما لمس وتراً حساساً في نفوس مؤيدي حزب العدالة والتنمية أدى فوراً إلى شحنهم”.

لكن هيهات، فالمعركة لم تكن قد حُسمت بعد، وحوالي الساعة الـ1 فجراً فتحت الدبابات النار على البرلمان في أنقرة، وما لبثت صورٌ أن انتشرت تُظهر الجثث المشوهة التي تناثرت أشلاؤها بسبب قذائف الدبابات، تلا ذلك اشتباك جوي بين أطراف القوات الجوية المسلحة، كما سمع دوي عدة انفجارات في أرجاء أنقرة وحول البرلمان.

من جهته تمكن الرئيس أردوغان من مغادرة الساحل التركي على متن طائرة خاصة، بيد أن طائرته أجبرت على البقاء في الأجواء والاستمرار في التحليق، ما يدل على حيرة الطائرة في إيجاد مكان آمن للهبوط.

تحول ميزان القوى

لكن حينما أشارت عقارب الساعة للـ2 فجراً 16 يوليو/تموز /2016، حصل تغير في اتجاه المد والجزر، وتحول ميزان القوى بشكل حاسم لصالح الرئيس أردوغان، فكثير من مسؤولي القيادة العسكرية العليا تحدثوا باسمه، كما نطق أخيراً الرئيس الأميركي أوباما بعد صمتٍ دام طيلة الجزء الأول من الليلة ليصدر بياناً قوياً شدد فيه دعمه لأردوغان.

أما على أرض تركيا فجميع الأحزاب المعارضة الرئيسية دانت الانقلاب وشجبته.
يقول أحد نواب البرلمان المعارضين، واسمه هشيار أوزصوي النائب عن حزب الشعب الديموقراطي HDP المناصر للأكراد، أن وحدة اصطفافهم النادرة هذه لعلها كانت السبب الذي أفقد المتمردين صوابهم.

يضيف أوزصوي “اضطر قادة محاولة الانقلاب إلى إعادة النظر في خططهم. نعم لدينا مشاكل في تركيا، لكن في الوقت نفسه لا يمكن للتدخل العسكري أن يكون حلاً أبداً”.

انتزاع المطار

إلى إسطنبول حيث انتزع مؤيدو الرئيس أردوغان السيطرة على المطار ما مهّد لهبوطه فيه حوالي الساعة 3:20 فجراً حيث قوبل بالحشود الغفيرة من الجماهير المؤيدة الهاتفة في مشهد كان الضربة النفسية القاضية التي أتت على آمال قادة الانقلاب.

ولم تخمد حماسة الجماهير، بل استمروا في التدفق أكثر وأكثر إلى الشوارع والطرقات دعماً لشرعية الرئيس، حتى أن بعضهم شوهد يقتحم المركبات العسكرية ويقدم العون لرجال الشرطة والضباط في إلقاء القبض على عسكر الانقلاب ومجنديه، في مشهدٍ سطّر عنصراً جوهرياً آخر من عناصر مقاومة الرئيس أردوغان وهو ولاء أفراد الشرطة له والذين تعاظم دورهم وتعزز في فترة حكمه ليكون أداة توازن بين نفوذ العسكر والجيش.

اقتحام متأخر

وعندما حاول الانقلابيون -متأخرين- اقتحام مكاتب قناة CNN Türk الإخبارية الخاصة كانت الشرطة هي من ساعد المواطنين على المقاومة والتصدي، كذلك كانت الشرطة هي التي اعتقلت أكثر من 40 جندياً في ساحة تقسيم بإسطنبول ممن كانوا قد فرضوا سيطرتهم على المنطقة.

كما أن الشرطة كانت هي أيضاً من فتح النار على طائرات الانقلابيين المقاتلة التي حلقت على علو منخفض فوق المدينة وأزّت أزيزاً ارتجّت له شبابيك البيوت والأحياء السكنية.

حوالي الساعة الـ4 فجراً خاطب الرئيس أردوغان جماهير الأمة في لحظة لعلها كانت الحاسمة في كل أحداث الليلة الليلاء، إذ قال “لتركيا حكومة ورئيس انتخبا ديموقراطياً. إننا على رأس السلطة وسنستمر في إحكام قوتنا حتى النهاية. لن نتخلى عن بلادنا لتسقط في أيدي هؤلاء المحتلين. الأمر سينتهي على سلام”.

استسلام

مع بزوغ فجر اليوم الجديد توالت المزيد من الأخبار السارة للرئيس، فقط ظهرت عشرات الصور لانقلابيين يسلمون أنفسهم في وضح النهار لمؤيدي الحكومة، كان بعضهم لا يرتدي سوى الملابس الداخلية في مشهد شديد الغرابة، ومع الساعة الـ6:40 صباحاً استسلم الجنود الذين كانوا قد سيطروا على جسر البوسفور رافعين أيديهم في الهواء فيما تولت الشرطة السيطرة على دباباتهم، أما عرباتهم ومركباتهم فسيطرت عليها جموع المحتجين على الانقلاب وسط فرحة عارمة.

وهكذا كان جسر البوسفور رمز بداية الانقلاب ورمز نهايته أيضاً، إذ قال ساعي البريد يلدريم يلدراي دوندار (34 عاماً) بعد ليلة قضاها كلها على الجسر في الاحتجاج والمقاومة “لقد انتهى الأمر وهذه كانت النهاية”.

وكالغريق المتشبث بقشة ظهر موقف أخير عن الانقلابيين من مقر القيادة العسكرية في أنقرة إذ أصدروا بياناً تعهدوا فيه بمتابعة القتال، بيد أن الزخم وسير الأحداث كان قد حُسِم قولاً واحداً لانتصار الحكومة، فأطلق أخيراً سراح رئيس أركان الجيش المختطف بعد الساعة 8:30 صباحاً بقليل، كما استعادت الحكومة لاحقاً السيطرة على مقر القيادة العسكرية ومبنى البرلمان الذي لحقت به أضرار جسيمة.

ثم بعد ظهر ذلك اليوم خرج رئيس الوزراء يلدريم مطمئناً ليعلن أن الوضع كله بات تحت السيطرة.

تاريخٌ من الانقلابات

1960
أول انقلاب في تاريخ الجمهورية، أطاح فيه قادة الجيش بالحزب الديمقراطي. جاء الانقلاب بعدما فرضت حكومة رئيس الوزراء آنذاك عدنان مندريس القانون العسكري في البلاد.

1971
اندلعت تظاهرات عمالية كثيرة في شوارع البلاد احتجاجاً على الركود الاقتصادي والتضخم الشديد المستفحل، فتولى الجيش دفة القيادة ليس بشكل حكم مباشر بل بممارسة القوة عبر تعيين عدة حكومات لتسيير الأعمال.

1980
العميد الجنرال أحمد كنعان إفرين يصبح رئيساً إثر انقلاب عسكري كان فاتحة عهدٍ من انتشار القمع السياسي الذي أدى إلى اعتقال مئات الآلاف من الناس. بعد ذلك ألقي القبض على إفرين وفارق الحياة في السجن.

1997
قدم رؤساء أركان الجيش لرئيس الوزراء الإسلامي آنذاك نجم الدين أربكان (من حزب الرفاه) قائمة بمطالبهم التي أدت في نهاية المطاف إلى تقديمه استقالته.

2012
محكمة تركية تبرئ ساحة 236 مشتبهاً به من العسكر بعد اتهامهم بالتخطيط لانقلاب “المطرقة” أو ما عرف في الإعلام التركي بـ Balyoz Harekatı عام 2003 للإطاحة بحكومة السيد أردوغان الذي كان رئيساً للوزراء آنذاك.

هافنغتون بوست

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى