مولاي أدرك السفينة قبل أن توشك على الغرق
البوعزيزي لم يكن يَعرف للإرهاب أو للتطرف طريقاً, وما كان رجل سياسة ولم يكن منظماً أو مجنداً لجهة داخلية أو خارجية, إنما كان شاباً فقيراً بائعٌ على عربة, يجوب الأزقة سعياً وراء لقمة العيش, ولمَا ضُيق عليه في رزقه كان منه ما كان، وما من احدٍ حتى اللحظة قال أن فعلته مدبرة أو مرتبطة بأجندة سياسية, فقط آثر الموت حرقاً بالنار لدفن آثار انتهاك كرامته, ومعلناً تخلصه من سياط الفقر التي قد أوجعته من قبل.
أنا اعترف أن هذا المشهد مختلف تماما, وانه لو أقدم العشرات على إعادة مشهد البوعزيزي لما ترحمنا عليهم, لإيماننا أن قتل النفس التي حرم الله كبيرة من الكبائر.
ولكن المفيد في حالة البوعزيزي ان للبشر طاقه, تحتمل درجه معينه من الضغوط, وتتكيف مع واقع الحال بالدرجة التي تتناسب مع الإمكانيات النفسية والمادية لها, مع وجود بريق أمل بقرب الانفراج, وبعكس ذلك, عندما تفوق الحدود الدنيا لمتطلبات العيش الحدود العليا للإمكانيات, مع فقدان الأمل، عندها يتعطل العقل وتصبح الحاجات والغرائز هي المحرك والموجه للسلوك البشري, والتي عبر عنها الفقه الإسلامي بقوله ” الضرورات تبيح المحظورات”.
وانطلاقاً من هذه القاعدة أوجه رسالة إلى قائد المسيرة حفظه الله ورعاة أقول فيها ” مولاي أدرك السفينة قبل أن توشك على الغرق”, كلنا ندرك الوضع الاقتصادي الصعب وما يتحمله وطننا من أعباء اقتصادية وأمنية وضغوطات سياسية, ولطالما فدينا هذا الوطن وقيادته الهاشمية بالمهج والأرواح وهذا ما نقدر عليه وفي حدود استطاعتنا, وإننا لن ننفك عنهما لطالما في العمر بقيه, ولكن ما لم نعد نطيقه اليوم ولا نقدر عليه وليس في حدود استطاعتنا هو مجارات الهوس والممارسات الاقتصادية من فرض للضرائب والرسوم وموجات الغلاء المرتدة التي انتهجتها الحكومة الحالية منذ عام 2012, فلا يمكن بأي حال من الأحوال أن يكون جيب المواطن الخاوية بالأصل هي ملاذ الحكومة في حل مشكلاتها الاقتصادية, في حين نرى الحكومة تعيش في رغدٍ ونعيم, ولم نشاهد منها أي مظهر من مظاهر الترشيد أو الإصلاح الإداري الذي يقنن الإسراف في المال العام،
والحديث اليوم عن رفع رسوم ترخيص السيارات ورفع سعر اسطوانة الغاز مع دخول فصل الشتاء, فالمواطن يتساءل عن المناسبة والتوقيت الحرج لمثل هذه القرارات وخاصة أنها تزامنت مع عطلة يوم الاثنين 1 تشرين ثاني المخصصة للتعداد السكاني الذي يمتد لعشرة أيام, ورغم شغفنا بالعطل يبقى المبرر للعطلة وتوقيتها محل استغراب الأكثرية.
فلسان حالنا يقول هل الحكومة تستغل انشغال الملك بالقضايا الأكثر حساسية لتمرر قراراتها, وتستغفلنا في عطلة وتعداد سكاني, أم أن الحكومة استهلكت أوراق بقائها وتحاول استفزازنا، وذر الرماد في العيون، أم أن الشعب ارتكب خطيئة بحق الحكومة وحانت ساعة الحساب, الأمر بحق غير مفهوم, ولكن الواقع أن قرارات الرفع الأخيرة قد تكون درست من جانب واحد دون النظر إلى الجوانب الأخرى التي تفوق أهميتها مفردة جباية الأموال, فأي قرار استراتيجي يجب أن يكون ذو نظرة شمولية، فماذا عن الجوانب الاجتماعية والاقتصادية والأمنية, أين النظرة الشمولية في قرار رفع اسطوانة الغاز التي تشكل مصدر التدفئة لغالبية المجتمع الأردني.
وأما القرار الفريد من نوعه وهو معاقبة كل من لدية عائلة تزيد عن خمسة أفراد، فهذا الأخير اضطر لشراء سيارة أمريكي تتسع لعائلته، ولم يختر هذه السيارة لكي يباهي بها الأمم أو من باب الترف الاجتماعي, إنما لرخص سعرها مقارنة بالصناعات الأخرى وهي على الأغلب سيارات مستخدمة used car)),
ألا يكفينا إعالة الأولاد, وتحملنا مصاريف دراستهم وعلاجهم لان القطاع العام لم يعد قادراً على تلبية احتياجاتنا مع التضخم السكاني الرهيب, ألا يكفينا دفع الضرائب على وقود هذه السيارات, إن كان الهدف الاستراتيجي للحكومة هو تخفيض فاتورة الطاقة بالتخلص من السيارات الكبيرة, فالأولى أن تتخلص الحكومة اولاً من سيارات الدفع الرباعي المستخدمة لديها, ولكن بالتأكيد هذا ليس في حسابات الحكومة التي فقدت حصة كبيرة من واردات الضرائب نتيجة انخفاض أسعار النفط عالمياً إلى مستوياته الدنيا, الموقف بجد خطير ويحتاج للتدخل السريع, فمن يراهن على تخوف الناس مما يجري على الساحة الإقليمية فقد خانه الاعتقاد وظل الطريق, ما تخفيه الصدور من حنق ويأس ليس من الحكمة تجاوزه والتذاكي على الحقائق الظاهرة للعيان, الانتباه للمخاطر الخارجية على درجة كبيرة من الاهميه, ولكن تحصين الجبهة الداخلية أهم, لا نريد أن نركن إلى صلابة العزم والإرادة تجاه الخطر الخارجي, ونغفل عن المقومات المنتجة لهما لتصبح معها الأنفس هلامية يعصف بها العوز وضيق ذات اليد, لتتلقفها أيدي الشيطان الرجيم.
فارتفاع نسب الانتحار, وجرائم القتل والسرقة والانحراف الأخلاقي, وتفشي الواسطة والمحسوبية التي قد تكون قناعاً للرشوة, كل هذه وغيرها من الانحرافات مؤشرات على تردي الوضع الاقتصادي للمواطن، فليس هناك أصعب على رب الاسرة من أن يقف عاجزاً عن تلبية ضروريات أطفاله, وعندها يسهل تعطل قوانين العقل والأخلاق لتصبح جميع الخيارات مفتوحة إمامه ومبررة طبقاً لقوانين الغريزة وحاجات النفس.
العميد الركن المتقاعد عادل الطالب
)