أحلام الغريق (قصة قصيرة) / وائل مكاحلة

أحلام الغريق (قصة قصيرة) / وائل مكاحلة
في تلك الليلة التشرينية.. أطفأ محركات سيارته الفارهة، وضم ياقتي معطفه الجوخ الثقيل، وهو ينظر من نافذة سيارته إلى نوافذ منزله شبه المظلمة إلا من بعض الومضات الخافتة، إبتسم بوجهه الحليق وهو يتخيل منزله من الداخل في هذه اللحظة بالذات، صغاره الوادعون نائمون في غرفهم الملونة.. تماما كعصافيره التي تغفو في أقفاصها الجميلة، ورود النرجس التي أغلقت بتلاتها لتنام في أجواء معطرة بعطر الشموع التي تشع بتلك الومضات التي يراها.. تلك هي لمسات الأنثى التي أحبها قلبه.. هذا هو البيت الذي طالما حلم به.. وحقق الحلم…!!

تذكر – وهو يتنهد في هيام – تلك الفتاة التي أحبها قلبه على مدرجات الجامعة حين كان معيدا، كان يشرح الدرس ويرمقها من تحت نظارته الطبية الأنيقة، جميلة رشيقة تعقص شعرها للخلف كذيل حصان.. تذكر هذا كله وهو اليوم أستاذ جامعي مرموق، زوجته أكملت تعليمها الجامعي وجلست تنتظره في البيت بأبهى صورة كل ليلة، تربي أطفاله وتعد له أفخر الأطباق وتهبه وقتها وعمرها و…… وقلبها…!!

تذكر – أيضا – أطفاله الذين يحرزون في المدارس أعلى الدرجات، كلهم يعدونه بغد حالم جميل، ثلاث أولاد وفتاة واحدة.. أصغرهم يبدو كأستاذ جامعي كوالده.. والفتاة.. تلك التحفة الفاتنة.. تماما كأمها…!!

ترجل من سيارته ليطأ أرض الشارع النظيف في تلك المنطقة الراقية التي يسكنها، نظر حوله لتطالعه – في ظلام الليل – أشجار الرصيف التي تتمايل بنعومة مع رياح تشرين الباردة،ثمة زقزقات خافتة تشي بطيور تعشش بين أغصان تلك الأشجار الوارفة، ترعى صغارها وتدفع فيهم الدفء اللذيذ، وعلى باب حديقة جاره.. تمطى ذلك الهر السمين ربيب النعمة، وخرج يبحث عن رزق عاطفي آخر…!!

مقالات ذات صلة

تقدم بخطوات رزينة من منزله الذي يعلو الرصيف بعدة درجات مرمرية براقة، ورفع ساقه ليصعد في الدرج……. فقط ليجد أنه يهوي إلى أسفل…!!

تعثر لعدة درجات قبل أن يجد نفسه ملتصقا بجدار زال ملاطه وظهرت في أركانه أسياخ الحديد الصدئة وبقايا الطوب الرخيص، نهض يتفحص ما أصاب سترته الجوخ الأنيقة، لدهشته وجدها كاكية زال لونها أو كاد.. نفض عنها غبار الجير غير فاهم، حك ذقنه الحليقة محاولا أن يفهم.. فوجدها خشنة نامية لم تجد رعاية منذ عقود…!!

“ما الذي حدث؟”
هكذا سأل نفسه وهو يصعد في الدرج ثانية، ما هذا؟.. الشارع الذي كان جنة منذ لحظات أصبح مقلبا للقمامة تعبث فيه القطط القذرة، وشقشقة العصافير تحولت – في لحظات – إلى نعيق لبومة لم تجد خيرا من هذا المكان لتمارس هوايتها !!.. أين سيارته الفارهة؟..لماذا يحتل مكانها هذا “الجونيور” المتهالك المحمل بالخردة والعتائق؟!!.. حتى البيوت التي كانت منفردة مكسوة بالقرميد الجميل منذ دقيقتين، يراها الآن عمارات قديمة ينتشر الغسيل على شرفاتها، وتهتز على مداخلها صفائح “الزينقو” لتعزف مع الرياح معزوفة عافتها نفسه…!!

“أين أنا؟؟”
نطق بهذا السؤال وهو يعود إلى مدخل القبو الذي وجد إسمه – هو بالذات – منقوشا على حائطه بالطبشور بخط طفولي هش !!.. قطع الدرجات ببطء متوجس، ليجد أنه في فسحة يتوسطها باب حديدي صدئ كان أخضر في يوم ما، طرق الباب في حذر ليجد الباب مواربا، خطا إلى الداخل وهو يبسمل، ثمة أطفال خائفون جلسوا حول منضدة تتوسطها شمعة وحيدة، كانوا يرتعدون من البرد حين صرخ أصغرهم: “أبي”…!!

كأن صرخته كانت إشارة بدء.. إنطلق الصغار ليعانقوه في شوق، وهو…… واقف لحد الآن مذهولا لا يفهم !!.. هناك بالون تبين فيه ملامح إمرأة كانت جميلة يوما ما.. قبل أن تقضي أمراض سوء التغذية والغدد على ملامح جسدها ووجهها وتحولها إلى……….. إلى شئ يتصف بكل شئ.. إلا الأنوثة…!!

خرجت أمامه من إحدى الحجرات تمسك بشمعة يتراقص شعاعها على وجهها.. فقط ليزيد المشهد رهبة، نظرت إليه في شراسة وهو تتمتم من بين أسنانها:

“هل جئت أخيرا؟.. الأمطار أغرقتنا وأغرقت البيت، وقضيت النهار أجمعها في دلاء وأولادك يصعدون بها الدرج ليسكبوها في الشارع، لم أجد في البيت طعاما إلا بعض الخبز الجاف، صنعت لأطفالك به فتة شاي لأسد كل تلك الأفواه التي تركتها لي، لا يوجد لدينا كيروسين لأشعل المدفأة، وحتى تكتمل الصورة جمالا.. جاء المحصل ليطالب بسداد فواتير الكهرباء المتأخرة، ثم قطع التيار عندما لم أفتح له الباب، كل هذا وأنت تدوح النهار في شاحنتك البغيضة تلك التي بالكاد تعمل، تشتري وتبيع الخرداوات لتعود لنا بملاليم لا تكفينا خبزا جافا، سكنت معك القبو يوما وكلي أمل في مثابرتك وجدك لتخرجنا منه، لم أكن أعلم حين تزوجتك في ذلك اليوم الأغبر ما فعلته بنفسي، ليت الأيام تعود بي لبيت أبي كي……… تا تا تا تا”…!!

كانت كلماتها لا تزال تدوي في أذنيه كالرعود، ولسانها يطلق الكلمات البذيئة كمدفع رشاش، وثمة صوت يتكلم في قعر رأسه مرددا:

“لماذا تسكن في التسوية؟؟؟”
.
.
تمّت

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى