الحقيقة والوسطية والتطرّف / د . حسين علي القضاة

الحقيقة والوسطية والتطرّف

قام الدكتور جواد العناني بتاريخ 10/3/2016 بنشر مقال في كل من صحيفة الدستور والعرب الجديد اللندنية بعنوان ” هل للوسطية مدرسة؟”
ونظراً لأهمية هذا السؤال، وأهمية وجمالية سرد الافكار، وزخم المعلومات الواردة في المقال فقد قمت بقراءته عدة مرات للوقوف على التفاصيل الدقيقة للافكار المطروحة، وعلاقتها بالنتيجة التي توصل اليها الكاتب في نهاية المقال، حيث أثار ذلك عدة تساؤلات في نفسي كقاريء ومهتم بالموضوع، علاوة على قناعتي بأن بعص المفاهيم ولا تنسجم مع النتيجة التي ختم بها المقال، برأيي المتواضع.
بدايةً، اتفق مع الدكتور بأن الحقيقة أمر عصّي على العقل البشري إدراكها، كما ورد في المقال، فقد حاول المفكرون والفلاسفة على مر العصور ومنذ ثلاثة الاف عام البحث عن الحقيقة، من بداية فلاسفة مدن ايلي وميلي الاغريقة(الطبيعيون)، الى ابو الفلسفة سقراط وتلميذه أفلاطون وتلميذه الآخر ارسطو – قبل ان يصبح تلميذ افلاطون- مروراً بفلسفة المملكة الهيلينية (50 ق.م) والمملكة الهندوأوروبية، ثم عصر النهضة وديكارت وسبينوزا والتجريبيين الانجليز الثلاثة (لوك،هيوم، وبيركلي)، وانتهاءً بعصر التنوير والمدرسة الرومانسية وهيغل وكيركيغارد وماركس.
فكل عصر من تلك العصور،بل كل فيلسوف في كل عصر كان يبحث عن الحقيقة بطريقته الخاصة، ففي حين آمن سقراط وافلاطون والرواقيون والقديس اغوسطينوس (354-430 م) وديكارت بالعقل كوسيلة لاتنباط الحقيقة، وجد البعض الآخر كأرسطو والقديس توما الأكويني (1225-1274 م) ولوك وهيوم وكيركيغارد أن الحقيقة لا يمكن ادراكها الا من خلال الحواس، ثم حاول الفيلسوف كانت (1742 م) الجمع بين الاتجاهين للوصول الى الحقيقة.
والحق يقال ان الحقيقة كانت، وما زالت، وستبقى عصَية المنال ما دامت قدرة الباحث عنها وأدواته محدودة وقاصرة، وليس أدَل على ذلك من تعاقب التغيير الذي يطرأ على الأفراد والمجتمعات والأفكار من جيل الى جيل، بل احياناً من عام الى عام، حتى صرنا -ورغم التطور التكنولوجي الهائل الذي نملكه- لا نستطيع الاستغناء عن ابسط وأول وسائل البحث العلمي المتمثلة بالتجربة والخطأ. ولو كان الانسان كما يقول (لامتري) في كتابه (الانسان الآلة) ذكياً بحيث توصل الى معرفة وضع كل الجزيئات في لحظة ما، فإنه ما من شيء يظل غامضاً، ويمكن التنبؤ بالقادم، وتصبح حياة الانسان معروفة البداية والنهاية، وهذا ما يسمى بنظرية الحتمية، ولكن هيهات ان يكون ذلك.
كما وأتفق بأن الوسطية حالة مستقرة بحد ذاتها، لها حيز في الزمان والمكان، وهي ليست كما يقول البعض حالة هلامية غير مقيدة، لربما كان يقصد الكاتب (الحياد) وليس الوسطية، ودليل ذلك جميع الأمثلة التي أوردها الكاتب في مقاله عن الوسطية، سواء كانت في الدين أو الاقتصاد او علم البيئة او الاحصاء او الرياضيات، وإن كنت اتحفظ على الاستشهاد بالأية القرآنية التي تقول ” وكذلك جعلناكم أمة وسطاً” ، فوسطية الشريعة الاسلامية كمنهج، يعتبر معتنقوه أنه منهج السماء، هي وسطية المنهج ككل، من حرف الباء في البسملة في أول سورة، الى حرف الدال في آخر سورة، وسطية منهج كامل، وان جاز التعبير وسطية المطلق وليست وسطية النسبية وفق ما يداعب اهواء البعض، فيكون تارة وسطاً ما اراد من المنهج، وتارة فيه الغلوَ والتطرف متى ما لم يوافق المزاج. والتفسير الدقيق والفهم الصحيح للمعنى المراد بهذه الآية يترك لأهل العلم والفقة الصحيح، فلست صاحب إختصاص.
وبناءً على هذين المفهومين، كنت اتساءل عن علاقة الحقيقة بالوسطية اذا اتفقنا بأن الوسطية حالة قائمة بحد ذاتها، فالربط بين الحقيقة والوسطية وفق ما بينه الكاتب يجعل من الحقيقة مقيدة بقيد الوسطية المقصودة، بل تصبح الحقيقة مرآة تعكس هذه الوسطية، حتى لو تبين بعد حين أن تلك الوسطية كانت بعيدة كل البعد عن الصواب. ثم ان هذا القيد يجعل من العقل البشري المفطور على البحث مقيداً لا حراً، ولا يكون له المساحة في الانطلاق والابداع والاكتشاف، وبذلك نكون خالفنا اهم مبدأ معاصر ننادي به جميعا وهو ” حقوق الانسان” كحق الانسان في البحث والاستقصاء، وحقه في الاعتقاد والاعتناق، وحقه في التعبير الحر غير الموجه، مخالفين شرائع حقوق الانسان، وقبلها شرائع السماء –ربما-. ومن هنا أجد ان الربط بين الحقيقة والوسطية هو ربط غير موفق، حتى لو تقاطعت لتشكل مساحة معينة، الا أنها لا تتحد لتشكل واحداً.
هذا من جهة، ومن جهة اخرى اتساءل كقارئ، اي وسطية كان يقصد الكاتب عن مدرستها؟ فهل هي وسطية الشريعة، ام وسطية التقليد والعادة ،ام وسطية القانون (كلها على سبيل المثل لا الحصر والتوجيه)؟ فكما حملت قديماً وما زالت تحمل مجتمعات العالم كله ومنها مجتمعنا أفكار ارهابية تحت أي اسم أو مصلحة كانت –كما يراها البعص-، ففي المقابل فإن هنالك من يرى بأن طرف الخيط المقابل هو العيش وفق مفهوم (الأنا) التي نادى بها المذهب الرومنسي وكان ابرز دعاته الالماني شيلينغ، ويعدو هذا المذهب الى تبنَي رفاهية النفس ومتعتها لتكوين الصورة عن العالم الخارجي، فكل فرد يحمل صورته الخاصة عن هذا العالم، عندها يكون وبأسم الأنا كل شيء يمتَع النفس ويرفًه عنها مباحاً مهما كان، فتكون هذه الرؤية بالنسبة للطرف الأول انحلالاً خلقياً وشذوذاً مفرطاً، وكلا الطرفين يهلك الافراد والأسر والمجتمعات. وعليه فأي طرف ندعو الى الوسطية؟ أندعو الطرف الأول دون الثاني؟ أم يجب ان تشمل الدعوة الطرفين على حد سواء؟ ام أن احدها يملك على حساب الثاني كل أسباب الاباحة والتبرير، كما يطلق عليها فقهاء القانون؟
وبالتزامن مع ذلك دون الاخلال به، ما مصدر الوسطية المدعو اليها والمراد ان تكون منهاجاً في مدرسة الوسطية؟ حيث لم أجد في المقال ما يبين مصدرها، فهل نبحث عنها في الدين والشرائع السماوية ام في العرف والعادة ام في القانون؟ وكل ما سبق ايضاً على سبيل المثال لا الحصر والتوجيه.
وبالتنواب يصل الكاتب الى نتيجه مفادها، وهنا أقتبس ” …اذا كانت الوسطية ستأخذ طريقها نحو اجتذاب الشباب ودغدغة عقولهم وعواطفهم لابعاد التطرف يميناً او يساراً، فإن صياغة الوسطية كمدرسة فكرية باتت واجباً على المفكرين والمجسدين بين الناس وصناع القرار” ، وهذه نتيجه لا تنسجم وفلسفة الطرح، فهل ما نريد فعلا هو دغدغة العقول والعواطف ؟ ثم الى أي شيء ندغدغها؟ والى متى ستدوم تلك الدغدغه، بمعى هل هي حالة مؤقتة؟ فالمعلوم ان الافراد والمجتمعات تتغير حاجاتها وتتباين ظروفها بشكل مستمر، وعلى فترات زمنية تكون قصيرة جدا احياناً، ويأتي افرادها في الزمن الواحد من مدارس مختلفة، فهل ما نريد هو تطبيق فلسفة أرسطو حين كان ينادي بمنع اعطاء وصاية ورعاية الطفل لوالديه، بل وجد في ذلك خطراً محدقاً، ونادى بانشاء رياض خاصة للأطفال لتقوم بحضانه الطفل وتربيته، فينشأ الجيل يحمل فكراً واحداً وعاطفة واحدةَ، فهل هذا ما نريد وهل هذه هي الوسطية؟ وهل سيتفق هذا النداء ومبادئ حقوق الانسان، وحرية الفكر والاعتقاد، وحرية التعبير كما سبق وبينَا؟ هل سيؤتي هذا النهج أكله ابتداءً؟
من كل ما تقدم، اجد ان الربط بين الحقيقة والوسطية و استخدام الوسطية المقصودة في المقال كمنهاج للمدرسة هو غير منسجم أيضاً، وبخاصة في ظل الاتفاق على أن الوسطية حالة قائمة بذاتها وليست مزيجاً او خليطاً بين حالتين، علاوة على ما للوسطية كمصطلح حديث النشأة ذو تاريخ معروف للجميع وغايات يخدمها باتت أيضا معروفة، فإذا كان ما يقوله ” زينافون” والذي استشهد به الكاتب، من أن لكل شيء نقيض واحد والشيء ونقيضه لا يجتمعان، والنتيجة المبنية على ذلك من أن نقيض الأبيض هو اللاأبيض، فإن صحت هذه النتيجة، فإن نقيض الأبيض سيتسع ليكون الازرق والامر والاخضر والأسود.
فتلقين الافراد ودغدغة افكارهم وعواطفهم بالوسطية المقصودة وجعلهم يحفظونها صماً كقصيدة دون ادراك معانيها، لن يختلف كثيراً عما تلقنه أصحاب طرفي الخيط، وخفظوه دون تدبير وتفكر ووعي وفهم. فالمتغير مهما بلغ من العلم والحكمة ومهما بلغت تجربته يبقى متغيراً، وليس من الحكمة الاعتقاد بأن المتغير –اي نحن البشر- يقدر على ارساء ثوابت لمتغير مثله أيضاً.
في المجتمعات المدنية والديموقراطية الحديثة، المشكلة عند اطراف الخيط تعدو البحث عن مدرسة للوسطية، المشكله هي سياسة واقتصاد واجتماعيات وجغرافيا وديموغرافيا، علاوة على شعور الطرف بأنه يجب أن يكون من المنتصف (المركز) بنفس المسافة التي يكون بها اي فرد آخر، عندها ينتظم البناء الهندسي، دون أن يتأثر بما يحمله اطرافه من حقيقة او فكر.

اظهر المزيد

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى