وماذا بعد شهر رمضان؟!

وماذا بعد شهر #رمضان؟!

#ماجد_دودين

{رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ}

جاء رمضان … ومضى رمضان …سوق قام ثم انفض، ربح فيه من ربح، وخسر فيه من خسر، ويتوجع #المسلم لفراق رمضان ويظل يتذكر أيامه ولياليه كيف كانت عامرة بالخيرات، ممتلئة بالعبادات، منيرة بالطاعات …

وينتهي رمضان وإذا بالمساجد تعود مرةً أخرى خاويةً على عروشها إلا من أهلها الذين هم أهلها، ويتباكى الدعاة إلى الله على جُهدٍ على مدار شهر بذلوه؛ وإذا هم في نهاية الأمر لم يجدوا له الأثر الذي ظنوه وانتظروه …

لماذا ينتكس الناس بعد رمضان وينشغلون مرة أخرى بدنياهم بعد أن ذاقوا حلاوة القرب من مولاهم؟

لما مات رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وقف أبو بكر يقول: من كان يعبد محمدًا، فإن محمدًا قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حيّ لا يموت …

وهأنذا أقول: من كان يعبد رمضان فإن رمضان قد انقضى، ومن كان يعبد الله فإن الله حيٌّ لا يموت، قال تعالى: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ (٢٦) وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ} [الرحمن: ٢٦ – ٢٧]، {لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [القصص: ٨٨].

قال ربكم جل جلاله: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثًا} [النحل: ٩٢] … هل رأيت امرأة تغزل ثوبًا وتغزل ثم تغزل، وبعد أن تم لها ذلك قامت فنقضت غزلها … أعادت الثوب خيطًا كما كان، فهل هذا فعل إنسانٍ عاقل؟! …

هكذا حالنا إلّا من رحم الله: إنك بعد أن كنت تقوم الليل إحدى عشرة ركعة يوميًّا في رمضان؛ تريد أن تترك هذا كله فلا تقوم الليل ولو بأربع ركعات، فأين أثر القيام فيك إذًا؟!

ألست قد وجدت لذةً في قيام رمضان؟، فلماذا تحرم نفسك من هذه اللذة؟، لماذا تحرم نفسك من الأجر؟، لماذا تترك سوسة الكسل تنخر في إيمانك؟!

إن ديننا هو دين الاستقامة لا يصلح فيه التلون والتفلت والزوغان، قال الله سبحانه وتعالى لرسوله – صلى الله عليه وسلم -: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ} [هود: ١١٢]، فاستقم على أمر الله … استقم على طاعة الله حتى تلقاه فيكون ذلك يوم عيدك الحقيقي، قال ربنا جل جلاله: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} [الحجر: ٩٩]، واليقين: الموت، فكن ربانيًّا ولا تكن رمضانيًّا. استقم على طاعة الله ولا تتلون.

إنك لا بد أن تخرج من رمضان بقلبٍ قد أَلِفَ الطاعة وأحبها واعتادها حتى صارت له كالهواء والماء للإنسان، فإياك أن تقتل إيمانك بالتثاقل إلى الأرض، والإخلاد إلى الكسل، والرضا بالقعود والنكوص.

إننى أريدك أن تكون شخصيةً ربانية مدى حياتك، لا على فترات متقطعة في حياتك فتكون رجلَ المناسبات، إياك أن تهجر الطاعة، لا تهجر حفظ القرآن وتلاوته … فالأعمال لم تنقطع بعد انتهاء رمضان، لم يُرفع عنك القلم بعد رمضان، قيل لأحد الصالحين: أيهما أفضل: رجب أم شعبان؟، فقال: كن ربانيا ولا تكن شعبانيًّا!!، لا بد أن تثبت وتصطبر وتربي نفسك وتُلزمها.

إن أول خطوات طريق الفشل والضياع أن تتحكم فيك نفسك وتسيِّرك كيف شاءت، قم تقوم، اخرج تخرج، ثم تنام، كل تأكل، لا بد أن تمتلك أنت زمام المبادرة، لا بد أن تتحكم أنت في نفسك وتذللَّها لطاعة الملك جل جلاله.

لازالت الأعمال بعد رمضان لم تنقطع. فالقرآن لا يهجر بمجرد انتهاء رمضان، بل حافظ على وِردك الثابت فيه، دُمْ على ذلك فالقرآن هو الذي يزكِّي نفسك ويصلح قلبك، ويثبتك على طريق الحق، فلتستمر في قراءة القرآن جزءين في اليوم على الأقل، ثم زد إلى ثلاثة ثم إلى خمسة لتختم كل أسبوع كما كان يفعل الصحابة.

كذلك القيام لم ينقطع، قم كل ليلة بإحدى عشرة ركعة، فالنبي – صلى الله عليه وسلم – كان لا يترك قيام الليل، فإذا فاته يومًا من وجع أو غيره صلَّى من النهار ثنتي عشرة ركعة، وذُكر أن الحسن بن صالح باع جاريةً له، فلما انتصف الليل قامت فنادتهم: يا أهل البيت، الصلاة … الصلاة، قالوا: طلع الفجر؟، قالت: وأنتم لا تصلون إلا المكتوبة؟!!، ثم جاءت إلى الحسن فقالت: بعتني إلى قومٍ لا يصلون إلا المكتوبة؟!! … رُدَّني.

والصيام لم ينقطع، فعليك أن تبادر بصيام ستة أيام من شوال حتى تكون كأنك صمت السنة كلها، رمضان ثلاثون يومًا، والحسنة بعشر أمثالها فيكون ثلاثمائة، وستة أيام بعشر أمثالها إذًا ستون يومًا، فتكتمل السنة، كأنك صمت سنةً كاملة، قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: “من صام رمضان ثم أتبعه سِتًا من شوال؛ كان كصيام الدهر”، وهناك ثلاثة أيام في كل شهر كان النبي – صلى الله عليه وسلم – يصومها ويأمر بصيامها هي الأيام البيض: ثالث عشر، ورابع عشر وخامس عشر من كل شهر عربي.

قال أبو هريرة – رضي الله عنه -: “أوصاني خليلي – صلى الله عليه وسلم – بثلاث لن أدعهن ما عشت: صيام ثلاثة أيام من كل شهر، وصلاة الضحى، وألا أنام حتى أوتر”، وأريدك أن تنتبه جيدًا إلى قوله – رضي الله عنه -: لن أدعهن ما عِشت.

وهناك غير ذلك صيام الاثنين والخميس، قال – صلى الله عليه وسلم -: “تُعرض الأعمال يوم الاثنين والخميس، فأحبُّ أن يُعرض عملي وأنا صائم”.

وهناك الصوم في المحرم، فيستحب فيه الصيام استحبابًا عظيمًا، قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: “أفضل الصيام بعد رمضان شهر الله المحرم”.

باع قومٌ من السلف جارية، فلما قرب شهر رمضان رأتهم يتأهبون له ويستعدون بالأطعمة وغيرها، فسألتهم فقالوا: نتهيأ لصيام رمضان، فقالت: وأنتم لا تصومون إلا رمضان!، لقد كنتُ عند قوم كُلَّ زمانِهم رمضان، رُدوني عليهم …

وأنواع الصيام كثيرة كصيام العشر الأوائل من ذي الحجة، وصيام شعبان؛ بل كان رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يصوم حتى يقول الصحابة: لا يفطر، ويفطر حتى يقولوا: لا يصوم، فالصيام مدرسة لتزكية النفس، وهي وصيتي الخاصة للشباب وخصوصًا في هذه الأيام التي امتلأت بالفتن، أسال الله أن ينجيني وإياكم منها.

والأعمال الصالحة؛ كلها لم تنقطع بانقطاع رمضان.

قيل لبشر: إن قومًا يتعبدون ويجتهدون في رمضان فقط، فقال: بئس القوم لا يعرفون لله حقا إلا في رمضان.

إن الصالح الذي يتعبد ويجتهد السنة؛ كلها، فأكثِر من الصدقة والإنفاق في سبيل الله، كلما مَنَّ الله عليك بفضله، وأكثر من ذكر الله وتسبيحه في كل أحوالك وفي كل أحيانك.

حتى الاعتكاف لم ينقطع بانتهاء رمضان، فالاعتكاف مشروع طيلة السنة.

بادروا بالأعمال الصالحة؛ فطوبى لمن بادر عمره القصير، فعمَّر به دار المصير، وتهيأ لحساب الناقد البصير، قبل فوات القدر؛ وإعراض النصير.

كان الحسن يقول: عجبتُ لأقوام أُمروا بالزاد، ونودي فيهم بالرحيل، وجلس أولهم على آخرهم وهم يلعبون!!

وكان يقول: يا ابن آدم، السكِّينُ تُشحَذ، والتَّنور يُسجر، والكَبشُ يُعتلف.

وقال أبو حازم: إن بضاعة الآخرة كاسدة فاستكثروا منها في أوان كسادها؛ فإنه لو جاء وقت نفاقها لم تصلوا فيها إلى قليلٍ ولا كثير.

كم من مستقبلِ يوم لا يستكمله، وكم من مؤملٍ لغدٍ لا يدركه، إنكم لو رأيتم الأجل ومسيره؛ لأبغضتم الأمل وغروره.

وكان أبو بكر بن عياش يقول: لو سقط من أحدكم درهمٌ لظل يومه يقول: إنا لله … ذهب درهمي، وهو يذهب عمره ولا يقول؛ ذهب عمري، وقد كان لله أقوام يبادرون الأوقات، ويحفظون الساعات، ويلازمونها بالطاعات.

وقيل لعمرو بن هانئ: لا نرى لسانك يفتر من الذكر فكم تسبح كل يوم؟، قال: مائة ألف، إلا ما تخُطئ الأصابع.

وصام المنصور بن المعتمر أربعين سنة وقام ليلها، وكان الليل كله يبكي، فتقول له أمه: يا بني، قتلت قتيلًا؟، فيقول: أنا أعلمُ بما صنعتُ بنفسي.

كان بعض السلف يقول: صم الدنيا واجعل فطرك الموت، الدنيا كلها شهر صيام المتقين يصومون فيه عن الشهوات المحرمات، فإذا جاءهم الموت فقد انقضى شهر صيامهم واستهلوا عيد فطرهم.

وقَدْ صُمْتُ عَنْ لذاتِ دَهْرِي كُلِّها …. ويَوْمَ لِقَاكُمْ ذَاكَ فِطرُ صِيامِي

من صام اليوم عن شهواته أفطر عليها بعد مماته، ومن تعجل ما حُرِّمَ عليه قبل وفاته؛ عوقب بحرمانه في الآخرة؛ وفواته، قال الله تعالى: {أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ في حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا} [الأحقاف: ٢٠].

كان الإمام علي يقول في آخر ليلة من رمضان: ليت شعري من هذا المقبول فنهنيه، ومن هذا المحروم فنعزيه.

وكذلك كان يقول ابن مسعود – رضي الله عنهما -: من هذا المقبول منا فنهنيه؟، ومن هذا المحروم منا فنعزيه؟

وكأن المستفاد من ذلك أولًا أن قبول الأعمال غيب، وأن غاية ما كان من سعي المكلفين إنما هو في تحصيل صور الأعمال ومظاهرها، وأما المعول والذي عليه المدار في القبول؛ إنما هو حقائق الأعمال ومقاصدها.

فليت شعري من هذا المقبول فنهنيه، ومن هذا المحروم فنعزيه؟

إن ذلك غيب، لا يدري أحدٌ أين ومن المقبول؟، وأين ومن المحروم؟

واستفدنا كذلك أنه لا بد بعد إنقضاء العمل من وقفة المحاسبة للنفس، والنظر فيما كان فيه هذا العمل، وهل وقع هذا العمل من الله تعالى موقع القبول، أو كان هذا العمل في محل الرد والحرمان؟

فاكتسبت النفس لذلك وَجَلًا بعد ما ظنت انقضاء زمان السعي والمجاهدة، جاءها زمان آخر … زمان المحاسبة للنفس، والمعاقبة على تقصيرها، والمجاهدة لشكر نعم الله -عز وجل- عليها.

كانوا يجتهدون في العمل الصالح، فإذا فعلوه وقع عليهم الهم: أيقبل منهم أم لا، فما ينفكون من وجلهم وإشفاقهم في أثناء أعمالهم، وما يذهب عنهم وجلهم ولا إشفاقهم بعد انقضاء تلك الأعمال، لا يدرون قبلت منهم أعمالهم أم ذهبت تلك الأعمال إلى غير محل القبول؟

واستفدنا كذلك من قول الصحابيين الجليلين أنه لايزال العبد واقفًا بباب الله، فهذا المقبول لا ينقضي بعمله المقبول سعيُه، بل يقتضي هذا العمل المقبول سعيًا موصولًا في شكر نعمة الله -عز وجل- التي آتاه، وفي القيام بحق الله -عز وجل- في التوفيق للعمل الصالح، وفي مزيد التنعم بما أذاقه الله عز وجل من حلاوة الطاعة.

وكذلك ذلك المحروم، لا ينقطع به الرجاء من ربه الكريم جل جلاله سبحانه وتعالى؛ بل إن حرمانه ذلك يعني ذهاب جولة من جولات السعي بسبب سوء فعله ومرذول قصده، فإذا حصل له التنبه لذلك فلا بد أن تكون جولة سعيه الأخرى أحظى بالقبول وأرجى لاستحقاق رحمة أرحم الراحمين.

مَنْ هذا المقبول الذي أُعين على الصيام والقيام، وعلى إصلاح وظائف الأعمال من الصلوات المكتوبات والجمعات. مَنْ هذا المقبول الذي أُعين على وظيفة الصدقة ووظيفة تلاوة القرآن، وختم له رمضان بالسداد في الأعمال الصالحات؟ مَن هذا المقبول فنهنيه؟

[مقتضيات القبول]

أولًا: الانكسار لعظمة الله: وتهنئتنا له وتهانينا إليه بفضل الله -عز وجل- الذي آتاه، وأن ذلك يعني منه مزيد إنكسار لعظمة الله، وعرفان بنعمة الله -عز وجل-، ومزيد سعي لشكران تلك النعم.

فعن أبي عمران الشيبانى: قال موسى يوم الطور: يا رب … إن أنا صليتُ فمن قِبلك، وإن أنا تصدقت فمن قبلك، وإن أنا بلَّغتُ رسالاتك فمن قِبلك، فكيف أشكرك؟، فقال الله تعالى لموسى: الآن شكرتني

فهذا قول الكليم … كليم الله -عز وجل- … وهو قول العارف بفضل الله المقر بإحسانه، قال: يا رب، إن أنا صليت فمن قِبلك، لا من سعي نفسي، ولا من تحصيلها، فلو وُكِلْتُ إلى نفسي، ولو وُكِلَتْ النفسُ إلى ما فيها؛ لما كان من العبد إلا العجز والتقصير، والتواني والذنب، والخطيئة والسيئات.

يا رب … إن أنا صليتُ فمن قِبلك، وإن أنا تصدقتُ فمن قِبلك؛ فكذلك ليس المال من تحصيلي؛ بل هو من رزقك وفضلك وعطائك، ولو شئتَ لم أكتسب شيئاً من ذلك المال، وقد أُحضرت الأنفس الشُّح، وجُبلت على الإمساك والبخل، فلولا أن تجود عليَّ بمباعدة شُحِّ نفسي؛ ما كان مني صدقة ولا إنفاق.

فيا رب، إن أنا تصدقت فمن قِبلك، فليس لي من ذلك العمل أيُّ شيء أنسبه لنفسي.

ويا رب، إن أنا بلغتُ رسالاتك فمن قِبلك، فليس ذلك البيان، ولا الشفقة على المكلفين، ولا الإعانة على البلاغ، ولا إيصال ذلك إلى قلوب المكلفين، ولا حركة المكلفين بموجب ذلك، وليس شيءٌ من ذلك من سعي العبد ولا من تحصيله؛ بل كل ذلك بفضل الله -عز وجل- وإحسانه.

وإن أنا بلغت رسالاتك فمن قبلك؛ فكيف أشكرك؟

فلو كانت الصلاة شكرًا، فما هي من سعيي، والشكر فعل ينسب إلى العبد لا إلى صاحب الإنعام والإكرام.

وإن كانت الصدقة شكرًا، فهي كذلك من فضلك؛ فليس ينسب إلى العبد شيء من ذلك.

وإن كان البيان عن الله والبلاغ لرسالته شكرًا؛ فهو كذلك من الله -عز وجل- لا من المخلوقين.

ذهبت حيل السعاة في شكر الله، وعجزوا عن شكر الله -عز وجل- على نعمه، فأصبح إقرارهم بالعجز هو إعلانهم بالشكر لله -عز وجل- على نعمائه.

فكان جواب الكريم للكليم: الآن شكرتني. فإقرارك بعجزك عن الشكر هو حقيقة ذلك الشكر، فإن شكر نعمة الله -عز وجل- يكون بنعمةٍ أخرى من الله -عز وجل- وفضلٍ وإحسان، يستوجب شكرًا آخر، حتى يكون الشكر الآخر نعمةً أخرى تستوجب شكرًا آخر، وهكذا.

فيُفضي الحال إلى الإقرار بالعجز، والإعلان بالقصور، وأن شكر نعمة الله -عز وجل- هو الإعلان بالعجز عن شكره.

ثانيًا: شهود مِنَّةِ الله: فليت شِعري مَنْ هذا المقبول فنهنيه، على فضل الله الذي آتاه، وأن ذلك يقتضي الإعلان بشكر نعمة الله، والإعلان بالعجز عن القيام بذلك، وأن ذلك يقتضي مع تلك التهنئة الالتفات للعمل والنظر إليه، حتى يشهد منة الله عز وجل فيما كان، وحتى يرى تقصير نفسه في كل عبادة يرى فيها أوجه عجزه وأبواب قصوره وضعفه وتوانيه وتباطئه مع فضل الله -عز وجل- السابق، وإحسان الله تعالى الغالب عليه.

ثالثَا: مطالعةُ عيبِ النفسِ والعمل: وتهنئة المقبولين تعني التفاتًا إلى نعمة رب العالمين، وتعني رجوعًا إلى هذه الأعمال التي كانت، بالنظر إليها، والتفتيش في أوجه القصور والنقص فيها، وأنه كان ينبغي أن تكون هذه الأعمال أفضل مما أدّيَت، وأن حق الله -عز وجل- أعظم من ذلك، وأن حق خطايا هؤلاء المقبولين وسيئاتهم يقتضي عملًا أكثر، فما يُزيل أدرانَ قلوبهم أضعاف أضعاف ما قدموا؛ بل إن هذه السيئات والعيوب تقتضي منهم سعيًا موصولًا وعبادةً غيرَ منقطعة وشغلًا دؤوبا بذكر الله -عز وجل- ومحبته إلى الممات، لا يقوم حق الله -عز وجل- بدون ذلك.

رابعًا: استقامة القلب: ليت شِعري مَن هذا المقبول فنهنيه؟، حتى تكون تهنئتنا له على ما نال قلبه من ذلٍّ لله -عز وجل- وتعظيم لأمره، وانكسارٍ من ذلك القلب، ورقةٍ على الخلق ليستديم ذلك الحال، وليتحول إلى شخصٍ آخر بعد منحة الله -عز وجل- له في رمضان، وعطائه إليه وإحسانه.

خامسًا: الثبات على العمل الصالح: ليتَ شِعري مَن المقبول فنهنيه؟، بأن يرجو موسم رمضان آخر بينهما عبادة موصولة، وشغلٌ بالله -عز وجل- وطاعته وخدمته ومحبته، شغلٌ دائمٌ غيرُ منقطع. ليتَ شِعري من هذا المقبول فنهنيه؟، حتى تكون تهنئتنا له سببًا لثباته على ما وفَّقهُ الله -عز وجل- له من العمل الصالح. فما ينقضي مع انقضاء رمضان صيامه … وما يذهب مع ذهاب ليالي رمضان قيامه … وما يعود إلى ما كان منه من وحشةٍ بينه وبين مصحفه وورِد قرآنه …

ليتحول إلى شخصٍ مقتدٍ بالنبي – صلى الله عليه وسلم – “فقد كان عمله – صلى الله عليه وسلم – دِيْمَةً”

وأخبر – صلى الله عليه وسلم -: “إن أحب الأعمال إلى الله -عز وجل- أدومها وإن قل”

فأحب العمل أدومه وإن قل، فيكون تهنئتنا للمقبولين سببًا لدوامهم على ما آتاهم الله -عز وجل- من أسباب التوفيق، فيقتدون في ذلك بسنة النبي – صلى الله عليه وسلم -: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ في رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللهَ كَثِيرًا} [الأحزاب: ٢١].

تهانينا … تهانينا أيها المقبول، تهانينا؛ ولكن لا تغتر، إنما قبلتَ بتوفيق الله، وتسديد الله، وفضل الله ورحمته، وليس منك؛ فليتعلق قلبك بالله شكرًا لله.

أيها المقبول، تهانينا؛ ولكن لا تفرح بعملك؛ فإن الله يستحق أكثر من ذلك.

أيها المقبول، تهانينا؛ ولكن احرس قلبك حتى لا تضيِّع لذة الطاعة التي حصلتها في رمضان.

أيها المقبول، تهانينا؛ ولكن احذر المشي والقعود مع البطالين والاغترار بهم.

أيها المقبول، تهانينا؛ ولكن اعلم أن علامة القبول الازدياد كل يومٍ من الطاعة.

أيها المقبول، تهانينا؛ ولكن سل نفسك: هل قوة الاندفاع للعبادة ضعفت عندك أم لا؟

أيها المقبول، تهانينا؛ ولكن هل لو مت الآن ستجد الله راضيًا عنك؟

أيها المقبول، تهانينا؛ ولكن سل نفسك: هل عملي يبلغني أعلى الجنان أم يكفي لمجرد نجاتي من النار؟

أيها المقبول، تهانينا؛ ولكن احذر الفتور والقعود عن طاعة الله.

أيها المقبول، تهانينا؛ ولكن إذا لعبت أو لهوت بعد رمضان فهذه علامة الخسران.

أيها المقبول، تهانينا؛ ولكن احذر أن يعود قلبك لقساوته بعد أن انجلى في رمضان.

أيها المقبول، تهانينا؛ ولكن احذر أن تهدم ما بنيته، وتعبت فيه وسهرت من أجله.

أيها المقبول، تهانينا؛ ولكن احذر أن تكون رمضانيًّا، تتعامل مع الله شهرًا وتتركه أحد عشر.

أيها المقبول، تهانينا؛ ولكن احذر أن تزوغ بقلبك بعد أن ذقت وعرفت، حتى لا تثبت على نفسك الحُجَّة يوم القيامة.

أيها المقبول، تهانينا؛ ولكن اعلم أن واجب الشكر لله يحتم عليك أن تشكر نعمة الطاعة التي وفقك الله إليها وأعانك عليها بالعمل، قال تعالى: {اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} [سبأ: ١٣]

أيها المقبول، تهانينا؛ ولكن لا تُهِنْ نفسك بعد أن أكرمك الله بالعبودية له وحده.

أيها المقبول، تهانينا؛ ولكن احذر أن تعصي ربك وتهجر كلامه.

أيها المقبول، تهانينا؛ ولكن احذر جمود العين وسوء الأخلاق.

أيها المقبول، تهانينا؛ ولكن احذر تضييع الأوقات، فكما كنت حريصًا على الوقت في رمضان حافظ عليه بعده.

أيها المقبول، تهانينا؛ ولكن حافظ على الشحنة الإيمانية الكبيرة التي معك وزد عليها ولا تنقص.

أيها المقبول، تهانينا؛ ولكن هل أنت حزين بانتهاء الشهر أم فرحان؟

أيها المقبول، تهانينا؛ ولكن أريدك أن تقارن بين قلبين: قلبك في رمضان، وقلبك بعد رمضان … انظر وتأمل.

أيها المقبول، تهانينا؛ ولكن سل نفسك: هل أنا بعد رمضان مقبلٌ على الدنيا بقلبي وعقلي أم أن الآخرة مازالت أكبرَ همي؟

أيها المقبول، تهانينا؛ ولكن احذر أن ينتهي الصيام بانتهاء رمضان.

أيها المقبول، تهانينا؛ ولكن السعيد من استعد ليوم الوعيد.

أيها المقبول، تهانينا؛ ولكن احذر من الاعتماد على ما قدمت؛ فإن من يحب مولاه يواصل السير إليه.

أيها المقبول، تهانينا؛ ولكن احذر الالتفات والمكر؛ فالله معك يسمعك ويراك.

أيها المقبول، تهانينا؛ ولكن اعلم أن الحقيقة، حقيقة القلب لا الظاهر فحسب، قال تعالى: {رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا في نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُورًا} [الإسراء: ٢٥].

أيها المقبول، تهانينا؛ ولكن احذر ضياع التقوى التي حصلتها.

أيها المقبول، تهانينا؛ ولكن احذر أن يقال لك: تعازينا

وليت شِعري من هذا المحروم فنعزيه؟

حتى يرى أن مصيبة الدين أعظم من مصيبة الدنيا، وأن التقصير الذي يكون في عمله الصالح ينبغي أن يكون أشد عليه من ضرره في بدنه أو ماله، وأنه مهما أصابه من مصائب الدنيا، فحق جبرانها وتعويضها مضمون، وأما مصيبة الدين فحظه من الله -عز وجل- قد ذهب، وحظه من الآخرة قد ولَّى.

بتصرف واختصار يسير من كتاب أسرار المحبين في رمضان – [محمد يعقوب]

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى