يمام القلوب الأبيض

خاص بمدونات الجزيرة

يكفي أنها قادمة من هناك حتى تحظى بكل هذا الحب، يكفي أنها كانت على مقربة خطوتين أو أكثر من البيت العتيق، وقد لمحتْ وجوه كل التائبين إلى الله، تدلّت فوق رؤوسهم، سمعت تلبيتهم بلكنات كثيرة وغريبة لكنها توحّدت وتشابهت عندما تلفظوا بكلمة “الله”.. يكفي أنها عناقيد الشوق البعيد، وجارة المآذن.

طاقية مقصّبة، ثوب قصير، خاتم فضّة صغير محفور عليه عبارة “مكّة المكرّمة”، لعبة على شكل كاميرا أضع عيني على فتحتها الصغيرة فأشاهد كل الأماكن الساحرة هناك.. ومسبحة مخلوطة برائحة الحناء والسفر وأنفاس الحجيج.. كلها كانت من نصيبي عندما عادت أمي من الحج قبل 35 عاماً.. للحجاج القدامى هالة غريبة وللحج العتيق رائحة مميّزة لا زلت أذكرها، كنت أشتم الشعائر كلها من ثوب أمي، كنت أسمع أصوات الملبّين كلّهم من صوت أمي، كنت أقبّل المسبحة وأشمّها طويلاً لأنها تأخذني إلى مكّة، ألمس التفاصيل من رائحة الحناء والبخور الممزوج بخشب المسبحة فأنتشي، أو هكذا كان يخيّل الي.

في رفّ خزانتي بقيت أحتفظ حتى بــ”كيس الحج” الذي يحمل هداياي جميعها، فهو مستودع العيد، وهو مزيج الشوق والذكرى ورائحة السفر المعتّق، وهو القادم من هناك ليستقر قرب فراشي هنا.. كنت أرفض أن أستخدمه سوى أنه “مستودع الحج” وضيف مكّة، ففي حسّي الطفولي البريء كل ما جاء من الديار المقدّسة “مبروك” ويحرم إهماله أو التقصير في برّه.

مقالات ذات صلة

ينقضي “يوم عرفة” وتبدأ أقدام الحجّاج تنسحب من شعاب مكّة البعيدة، يتركون خيمهم، قوارير شربهم، بقايا أمتعتهم، قشور خطاياهم، جلودهم المثقلة بالذنوب، وينزلون كما ولدتهم أمهاتهم على بساط المغفرة المنسوج بالاستغفار والتلبية
رويترز

بقدر شوقي لهذه الشعيرة العظيمة، إلا أنني كثيراً ما أحزن في يوم عرفة.. عندما تغيب الشمس عن الجبل العظيم، فينزل الحجيج عن أماكنهم، ويذوبون كما يذوب الثلج على القمم العالية، يتكشّف سواد الجبل، وينحسر البياض الكثيف ليسيح في الأرض مستكملاً شعائره، أنظر طويلاً إلى “النفير” وأقول، ترى كم حاجاً وقف هنا، ودعا هنا، وبكى هنا، وتمنّى هنا، كم حاجا باح بخطاياه بجرأة لا يجرؤ أن يبوح بها لأقرب الناس إليه، كم منهم مات وترك المكان وحيداً ولم يعد إليه، وكم منهم يتمنى لو يعود.

في غروب عرفة، عندما ينقضي النهار، ويعوّد الزوار إلى بيوتهم ومساكنهم، يبقى الجبل وحيداً يلملم أصواتهم وتمتماتهم آخر الليل، ينسج من أحلامهم وأدعيتهم غيمة استجابة، تكنس الريح زلاتهم الصغيرة، ويبتسم المكان الخالد لهم مودّعاً.. في الحج ّ ثنائيات رائعة، ففي الوقت الذي تكتسي فيه الكعبة المشرّفة “حلّتها السوداء” الجميلة فتزهو، يكتسي الجبل رداءات الحجيج البيضاء ويزهو.. ثنائيتهما تشبه ثنائية الليل والنهار، الذنب والغفران وبياض العين وسوادها.. هي رسالة لمن يقرأها لا تستكثر ذنوبك فواحدة من صفات من تعبد أنه غافر الذنوب، ولا تيأس من الرحمة وأنت حيّ.. ما دام لك ربّ غفور لا يموت.

يوم ينقضي “يوم عرفة” وتبدأ أقدام الحجّاج تنسحب من شعاب مكّة البعيدة، يتركون خيمهم، قوارير شربهم، بقايا أمتعتهم، قشور خطاياهم، جلودهم المثقلة بالذنوب، وينزلون كما ولدتهم أمهاتهم على بساط المغفرة المنسوج بالاستغفار والتلبية.. وعندما تُشغّل الحافلات محركاتها، ويطوف السنونو المكي فوق العابدين التائبين وشواهد المكان في جولة أخيرة قبل أن يحل الظلام.. أحسّ أن عين الشمس تدمع هي الأخرى.. نحن نبكي فرحاً عندما نرى شخصين تصالحا من بعد خصام.. فكيف لنا لا نبكي عندما نرى كل هؤلاء وقد تصالحوا مع الله.. طوبى لمن طاف ولبّى.. طوبى ليمام القلوب الأبيض.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى