التغريبة الحورانية

#التغريبة_الحورانية
د. #حفظي_اشتية
تمتدّ #حوران من ريف دمشق شمالا إلى عجلون جنوبا، ومن البادية شرقا إلى الشريعة غربا بحرا من رماح وسنابل، فوق ثراها عبر أنبياء وصحابة وقادة عظام وجيوش جرّارة، وعلى رحاها دارت معارك فاصلة رسمت معالم التاريخ، قمحها أهراء روما، ومدنها جواهر “الديكابولس” العشر، وأهلها حجارة صوّان تمور قلوبها والدفائن بالرقة والحنان…..
ــ قرية “حريما ” شمالي إربد، إحدى زهرات هذا السهل العظيم، فيها عشيرة الزعبي التي تفرد أجنحة خيرها ومجدها على ربوع الأردن وسوريا وفلسطين.
نبغ في القرية طبيب عظام مشهور، هو الدكتور زياد محمد يوسف الزعبي، الذي برع في مهنته، وأصبح علما في تخصصه، ثم أدهشنا أكثر عندما تبدّى لنا برداء أديب أريب في روايته الباذخة : ( من حوران إلى حيفا )، التي قدّم لها الدكتور سمير قطامي من الأردن، والدكتور جوني منصور من فلسطين، ونشرتها مؤخرا وزارة الثقافة.
ــ هي حكاية والده وقريته والأردن وسوريا وجرح فلسطين ومكر المستعمرين :
في أواخر عشرينيات القرن الماضي كان والده محمد اليوسف الزعبي فتى غضّ الإهاب، لم يتجاوز ثلاثة عشر ربيعا بعد، طاغي الطموح، أسدا لا يهاب. ضاق ذرعا بجمود الحياة في القرية، وانسداد الأفق التعليمي والاقتصادي، وجشع التجار الدائنين بالربا المحتكرين لجنى شقاء الفلاحين…. فتآزرت إرهاصات وظروف وحكايات واستطلاعات وصلات قربى لتجعله مسكونا بنزعة جارفة للسفر إلى حيفا.
غادر القرية مغامرا صغيرا جريئا في رقبته كيس قماشيّ فيه مطرة ماء وثلاثة أرغفة، وفي جيبه اثنان وعشرون قرشا، هي كل عدته وعتاده وثروت وزاده، وبين جنبيه قلب ذكيّ ألمعيّ، ونفس توّاقة للنجاح والمجد.
توجه غربا متجاوزا قرى إربد الشمالية إلى أم قيس، ثم منحدرا نحو الحمّة، ليقطع الشريعة إلى سمخ قرب طبرية، ومن هناك ركب القطار إلى حيفا، سحر الشرق وأيقونة فلسطين وجامعة العرب.
ــ عمل أول أمره حمّالا بملاليم، ثم سلّالا، ثم عربجيّا، ليقفز فيما بعد درجات السلّم سريعا، فيصبح تاجرا شريكا في دكان خضار صغير، يطوره ليصبح من أكبر محلات الخضار والسّمانة، فيلمع نجمه في سماء حيفا، وتعتلي معارفه وعلاقاته ليصير متعهدا رئيسيا يورّد الخضار إلى ميناء حيفا.
وخلال رحلته تلك كان يستقدم إخوته وأقاربه وأهل قريته للعمل معه، أو في الميناء، أو ما تيسر، فيتكاثر أعوانه ليشكّلوا أخيرا جمعية من مئات الحوارنة، تفرض مهابتها واحترامها، ويكون لها قدرها الكبير وشأنها العظيم في حيفا، وتخطّ خريطة الوحدة العربية الحقيقية فعلا وقولا.
ــ مكث الشاب في حيفا ثمانية عشر عاما، هي الفترة الحرجة الخطرة من تاريخ الصراع في فلسطين، فقد كان الأعداء بداية أمرهم قليلي العدد، ضعفاء جبناء، يواجههم العرب بالشفقة والاستهتار، لا يملكون إلا فتاتا من الأرض، لكنهم شيئا فشيئا، وبمساندة الانتداب الغاشم والغرب الظالم، بدأو يتكاثرون، ويتملكون الأراضي، ويتسلحون ويتدربون، ويمضون قُدما في مخطط سابق مرسوم ومحتوم…..
وتوالت الحلقات كالأحلام، واحتجبت الحقائق في ركام الأباطيل والأوهام، وغرق أهل فلسطين في أكوام التقارير واللجان الدولية والقرارات الأممية والوعود الخلّبية والتهديدات العرمرمية….. والعيون زائغة بين الحق والسراب :
ــ عز الدين القسام يقبض على جمر الحق، فيستشهد مع صحبه في أحراش يعبد قرب جنين، وعبدالقادر الحسيني يطلب السلاح ولا مغيث ليستشهد في القسطل ويده تقبض على الزناد، ومحمد الحنيطي يترك وظيفته ورتبته في الجيس العربي لينظم قوة الدفاع عن حيفا، ثم يشحّ السلاح فيسافر إلى لبنان، فيأتي بشحنة يتم تدميرها في أعالي الجليل بتدبير ماكر بين العدو الأصغر والعدو الأكبر، فيستشهد البطل مرتقيا إلى ربه مشتكيا الخذلان وغياب النصير. مظاهرات، اعتصامات، عمليات فردية، إضرابات تمتد لشهور، ثورة تمتد لسنوات….إلخ لكن تلك كانت طلائع شريفة في بيئة غير مواتية : فثمة زعامات لوثتها المصالح، ومزقتها الخلافات ونوازع الرؤى : هذا يربط مصيره بألمانيا، وذاك يمالئ بريطانيا، هذا ميّال للواقعية والدبلوماسية، وذاك يئس ونفض يديه من أية حلول سلمية، هذا يؤيد الإضراب، وذاك يرفضه، هذا يطلب تدخل العرب، وذاك يرى ضرورة الاعتماد فقط على الذات، هذا جيش للإنقاذ احتاج سريعا إلى من ينقذه، وتلك جيوش عربية تركب موجة الفزعة وتدخل دون تنسيق، هنا أبطال مغلولة أيديهم لعدم وجود أوامر، وهناك أصحاب حمية يتمردون فيقاتلون ويعصون الأوامر……
وبين كل هذه المصائب المجتمعة الفتاكة ثمة نقاط مضيئة تلمع في سماء الصراع : نخوات أسود جنود الجيش العربي في وديان القدس وأسوارها بقيادة عبدالله التل وحابس المجالي، يقاتلون حتى الرصاصة قبل الأخيرة، لتسلم القدس، وتضحيات للجيش العراقي تفتك بالمعتدين وتستردّ جنين وبوابات مرج ابن عامر، وصمود أسطوري لأبطال أحرار محاصرين في الفالوجة، ومقاومون باسلون يدركون هول الأمر وعِظم الفجيعة القادمة، فترخص أرواحهم وأموالهم وآمالهم فداء ثرى فلسطين.
كان محمد اليوسف وشباب الحوارنة عموما من هذه الفئة، قاوموا واستبسلوا ودافعوا حتى الرمق الأخير، فاستشهد منهم من استشهد، ليجد الباقون أنفسهم قد تفرقوا أيدي سبأ مع الجمع المذعور الغفير، يعبرون النهر شرقا غِضابا محزونين مصدومين، أو يركبون البحر شمالا يلتفتون بحسرة إلى حيفا حلوة المدائن، يناجون جبل الكرمل الحزين، ويذرفون دمع الأسى الدفين السخين، لتنتهي الحكاية على وجع مقيم متجدد، يسكن الجوانح لا يهدأ أبدا ولا يتبدّد…..
ــ نجحت (التغريبة الفلسطينية ) بجدارة في إذكاء روح الوطنية، وإبقاء الذاكرة قوية حية.
ألا من يهبّ إلى إنجاز عمل مماثل يحكي هذه الذكريات الحقيقية بعنوان ( التغريبة الحورانية )، ويعيد تأكيد المؤكَّد من أواصر الوحدة الوطنية بين رئتي النهر المقدس، فقد قدّر الله سبحانه وتعالى لهذا الشعب الواحد في الأردن وفلسطين، وشرّفه بأن يكون رأس الحربة، وقطب الرحى في الدفاع عن العرب والمسلمين، ودرء الخطر الداهم القادم، إلى أن تتهيأ الأسباب لاسترداد الحق السليب من المغتصبين؟؟!
( ألا إن نصر الله قريب )، فمن يستجيب ؟

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى