هم يراهنون ونحن نراهن
لقد فاجأهم تيار الصحوة الإسلامية يظهر بزخم كبير بعد أقل من 50 سنة على إسقاط الخلافة الإسلامية العثمانية عام 1924، وما سبق ذلك من الحملات الاستعمارية وتقسيم تركة الدولة العثمانية وفق اتفاقية سايكس-بيكو، ثم لاحقًا بظهور التيارات الفكرية والقومية والوطنية على حساب الهوية الإسلامية.
ظهرت ملامح المفاجأة بظهور جماعة الإخوان المسلمين في مصر وتأثيرها على الحياة السياسية والاجتماعية، ليس في مصر وحدها وإنما على المنطقة العربية بل وتجاوزها إلى الشعوب الإسلامية حيث واكب ذلك ظهور وصعود نجم الحركات التي واجهت #الاستعمار، وكانت جلها بصبغة دينية في شمال أفريقيا وفي شبه القارة الهندية وغيرها.
صحيح أن تيار الصحوة الإسلامية حيث مدارسه ومشاربه المختلفة، قد شابه بعض الشوائب في ظلّ نشأته غير العادية وملاحقته من قبل الأنظمة بل والمعسكرات العالمية، إلا أن بصمات تيار الصحوة ظهرت على الحياة الاجتماعية والسياسية في كثير من المواقع كان أبرزها مصر وتركيا وشمال أفريقيا وشبه الجزيرة العربية.
ومع حالة الدراسة والرصد لكل تفاصيل تيار الصحوة الإسلامية، إلا أن ثورات الربيع العربي مطلع العام 2011 قد فاجأت وصدمت كل مراكز الدراسات ومعها أجهزة الاستخبارات العالمية والعربية التي فشلت في توقع ما حصل، الأمر الذي ضاعف الجهود والأموال التي تنفق لدراسة تيار الصحوة ومستقبله.
ودائمًا وأبدًا، فقد راهن أعداء المشروع الإسلامي على قوتهم العسكرية والأمنية والسياسية والإعلامية وحتمية انتصارها، بينما يرى أبناء تيار الصحوة والمشروع الإسلامي أن مشروعهم هو الأصلح لتصحيح مسار الأمة بل العالم بأسره، ولأنه كذلك، فإن هذا من دواعي أسباب بقائه وديمومته.
إنهما تياران إذن، التيار الذي يؤمن أن البقاء للأقوى، والتيار الآخر الذي يؤمن أن البقاء للأصلح، فعلام يراهن كلا التيارين؟
ولأنني أنتمي وبلا تردد بل بكل اعتزاز إلى تيار الصحوة والمشروع الإسلامي، وأؤمن أن البقاء للأصلح، فإنني سأكتب من خلال انحيازي بلغة هم ونحن.
رهانهم على القدوات السيئة
هم يراهنون على أن أمة العرب والإسلام لم تعد تجمعها رابطة الدين ولا رابطة القومية، وإنما أصبحوا دولًا وشعوبًا متفرقة، وأن العرب والمسلمين ومنذ أن رفعوا راية القومية والوطنية العلمانية، لم تُرفع لهم راية ولم تتحقق لهم غاية، وأنهم أصبحوا في ذيل القافلة وعلى هامش التأثير. إنهم يراهنون على أن من استبدلوا هويتهم العقائدية بالاشتراكية والشيوعية والقومية والوطنية وهتفوا باسم لينين وماركس وجيفارا وجمال عبد الناصر، فإن هؤلاء لن تقوم لهم اليوم قائمة.
ونحن نراهن على أن سنوات التيه والضياع قد انتهت وولّت، وأن انحراف البوصلة قد تم تداركه وتصحيحه، وأن شعوبنا قد جرّبت كل الميادين والمناهج والأفكار، وقد رفعت كل الرايات، فما زادها إلا ذلًا على ذلّ وهوانًا على هوان، فخلعت تلك الرايات وأسقطتها ولم ولن تقبل بديلًا عن راية التوحيد، وأن زمن الهتاف والاعتزاز والاقتداء بأسماء ورموز مستوردة قد انقضى، وأن أبناء شعوبنا أصبحوا لا يقتدون ولا يهتفون إلا باسم محمد ﷺ وبأبي بكر وعمر وعثمان وعلي وخالد وسعد وطارق وصلاح الدين لسان حالهم يقولون:
أنا مسلم ولي الفخار فأكرمي يا هذه الدنيا بدين المسلم
وأنا البريء من المذاهب كلها وبغير دين الله لن أترنم
فلتشهد الأيام ما طال المدى أو ضمّ قبري بعد موتي أعظمي
أني لغير الله لست بعابد ولغير دستور السما لن أنتمي
رهانهم على الزعماء
هم يراهنون على أن قادة وزعماء العرب والمسلمين أصحاب الجلالة والفخامة والسيادة والسمو ما زالوا يجثمون على صدور شعوبهم، يحكمونهم بالنار والحديد والقمع والقهر، يقتلون ويعتقلون ويشرّدون، وأنهم منشغلون بملاحقة شعوبهم وقمع إرادتهم أكثر من انشغالهم بأعداء أمتهم.
هم يراهنون على أن أقصى ما يمكن أن يفعله هؤلاء هو الشجب والتنديد والاستنكار، وفي أحسن أحوالهم فإنهم يعقدون مؤتمرًا للقمة هزيلًا فارغًا من أي قرار جدّي، وغالبًا ما يُعرف بيانه الختامي قبل أن يبدأ، لا بل إن منهم من أصبح يزهد بالمشاركة فيه فيوفد من ينوب عنه أحد خدامه وعبيده، رئيس وزرائه أو وزير خارجيته.
هم يراهنون على أن هؤلاء القادة يتظاهرون بالعداء لأمريكا وهم في الحقيقة خاضعون لها خائفون منها كخوف العصفور من الصقر، وهم يدفعون لها الجزية وضريبة الذلّ لعلمهم أنها هي الحامية لهم، وأن بقاء ملكهم سببه وجود القواعد الأمريكية في بلادهم، وأن هؤلاء الزعماء العرب والمسلمين يتظاهرون بالعداء لإسرائيل وسياساتها، بينما هم يقيمون معها علاقات علنية وسرية ليس آخرها اتفاقية إبراهيم حيث العلاقات السياسية والاقتصادية وحتى الأمنية، والتنسيق بين أجهزة مخابرات هذه الأنظمة مع نظيرتها الإسرائيلية. وأن السلطة الفلسطينية في رام الله التي هي نتاج اتفاقية أوسلو المشبوهة، هي أكثر نظام عربي ينسق أمنيًا مع الجانب الإسرائيلي، يصادم بذلك مصالح الشعب الفلسطيني ويضيع ويتنازل عن حقوقه التاريخية التي أقرتها قوانين الأرض وشرائع السماء.
ونحن نراهن ليس على الأنظمة والزعماء، وإنما نراهن على الشعوب الخيرة المباركة والتي نعلم أنها قد تمرض لكنها لن تموت، وتكبو ولكنها سرعان ما تنهض كالطود الشامخ وتندفع كالإعصار العظيم.
ونحن نراهن على أن الزعماء والطواغيت عربًا ومسلمين ممن هم حجارة شطرنج تحركها يد اللاعب الأمريكي، قد مرّ في تاريخ الأمة مثلهم وأسوأ منهم ممن كانوا ألعوبة بيد الصليبيين والتتار أمثال ابن العلقمي وشاور والصالح إسماعيل وغيرهم، وأن هؤلاء قد خلعتهم شعوبهم بل أعلنوا عنهم أنهم أمراء للبيع كما فعل بهم سلطان العلماء العز بن عبد السلام رحمه الله.
ونحن نراهن على أن هذه الشعوب المباركة التي كان يُظن أنها ميتة وجبانة قد انتفضت وثارت على طواغيتها مطلع العام 2011 خلال ثورات الربيع العربي، وأنه رغم إجهاض تلك الثورات ورغم ما أنجزته من خلع طواغيت والإطاحة بهم، فإننا على يقين أننا على موعد مع شتاء إسلامي عاصف سيطيح بمن اغتصب وأجهض ثورات الربيع العربي وبمن تبقى من رموز الخيبة والعار.
ظنّ الطغاة بأن نار جحيمهم أقوى من الإيمان بالقرآن
لا والذي جمع القلوب بشرعه لا لن يطول تجبر القرصان
أسد العقيدة لن يداس عرينها ستموج كالإعصار كالبركان
ستقوم تقتلع الطغاة لتعتلي فوق العروش شريعة الرحمن
رهانهم على معسكرات الأعداء
هم يراهنون أن أمة الإسلام تعيش اليوم بين فكيّ كماشة، أمريكا من جهة وروسيا من الجهة الأخرى، وأننا لا قبل لنا بهما، فمرة تلدغنا عقرب روسيا ومرة تلدغنا أفعى أمريكا، وأنه لا خيار للأمة إلا أن ترتمي تحت قدمي وفي أحضان أحد المعسكرين تدفع ضريبة الذلّ والتبعية ثمن حمايتها.
ونحن نراهن على أن التاريخ الذي يخبرنا أن إمبراطوريات كانت أعظم من روسيا وأمريكا، إنهم الفرس والروم كانوا سادة الدنيا وحكامها، وأنهم حاولوا يومًا وأد وإجهاض وطمس معالم ديننا، فكان نصيبهم الذلّ والهوان والهزيمة، بل أصبحت عواصمهم يدوي فيها صوت أذاننا وتكبيراتنا.
وأن التاريخ يخبرنا كذلك أن الأمة وقعت يومًا بين فكيّ كماشة الصليبيين من جهة والتتار والمغول من جهة أخرى، فكان أن حطّمنا فكيّ الكماشة هذين ولم يبق منهما إلا ذكريات حطين وعين جالوت.
كمثل سعد وكسرى يستهين به وجيش رستم إعصار يلاقيه
وابن الوليد وما في الأرض من نغم كمثل قعقعة الأرماح يشجيه
ولست أنسى صلاح الدين وهو على مشارف الأقصى يناجيه
هذي نماذج قد جاد الزمان بها فلألأت كالثريا في دياجيه
رهانهم على ضياع الشباب
هم يراهنون أن الجيل الجديد من أبناء الإسلام فيه كثير من الأمراض الفكرية والاجتماعية، وأن أبناء هذا الجيل يشغلهم كل شيء إلا الدين والأوطان، فإنه على هامش اهتماماتهم، وأن الواحد منهم مشغول بنفسه ولا يهمه غيره، وأن منهم من هو تائه لا يعي حجم المأساة التي يعيشها المسلمون ولا يفهم حقيقة الصراع الذي تعيشه الأمة، وأن منهم من يعي حجم المأساة ولكنه يائس محبط ينظر إلى المستقبل نظرة سوداوية قاتمة، ومنهم ليس أنه يائس ومحبط بل إنه يؤدي دور التيئيس والتخذيل لغيره يمزق الصفوف ويثبط الهمم والعزائم.
ونحن نراهن على أن هذا الجيل قد استيقظ من غفلته وقد نفض عنه غبار السنين، وتحرر من قيود الشهوات والعصبيات، ومزّق كل الشعارات الزائفة، وكفر بكل المناهج والمبادئ الزائفة قومية كانت أو وطنية أو طائفية.
إنه الجيل الذي تلقفته يد العناية الربانية عبر تأثير الصحوة الإسلامية المباركة التي تعم أرجاء الكون، فالتحق بموكب الإيمان ومجالس القرآن ولم يعد يعتز ويفاخر إلا بانتمائه لهذا الدين ولسان حاله يردد مع منشدنا الذي قال:
أنا إن سألت القوم عني من أنا أنا مؤمن سأعيش دومًا مؤمنًا
فليعلم الكفار أني ها هنا لن أنحني لن أنثني لن أركنا
أنا من جنود الله حزب محمد وبغير هدي محمد لا أهتدي
حاشاي أن أصغي لدعوة ملحد وأنا فتى القرآن وابن المسجد
فللذين راهنوا على أن الإسلام يوشك أن يشيّع إلى مثواه الأخير، وأنهم يشاركون ويحتفلون برؤيته يلفظ أنفاسه الأخيرة، أو أن أبناء الإسلام سيظلون كالأيتام على موائد اللئام، أو أنهم سيظلّون ريشة في مهب ريح هؤلاء وأولئك، إننا نقول لهم إن فألكم سيخيب، وإن رهانكم خاسر لا محالة.
وللذين لا يحكمهم إلا منطق الحسابات المادية الجافة ومن خلالها فإنهم يرون المستقبل والديمومة والبقاء هو للأقوى ولمن يملك أسباب القوة المادية، فإننا نقول لهم وفق منطق الدين ومنطق التاريخ ومنطق الواقع، إن البقاء ليس للأقوى وإنما البقاء للأصلح {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ} آية 105 سورة الأنبياء، وإن غدًا لناظره قريب.
نحن إلى الفرج أقرب فأبشروا.
رحم الله قارئًا دعا لي ولوالدي ولوالديه بالمغفرة.
والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.