الداعشية الأردنية… قبل “إربد” وبعدها

الداعشية الأردنية… قبل “إربد” وبعدها
كتب .. د . محمد ابو رمان للعربي الجديد

تعدّ المواجهات العنيفة بين القوات الأمنية الخاصة الأردنية وخلية تابعة لتنظيم داعش في مدينة إربد (شمال) من أبرز الأحداث في سياق الصراع بين السلفية الجهادية والقاعدة، ثم داعش من جهة، والسلطات الأمنية الأردنية من جهة أخرى.
صحيح أنّ ما حدث ليس أخطر ما شهده الأردن، ولا يمثّل “طفرة” مقارنةً بعمليات وخلايا سابقة، مثل ما حدث في تفجيرات الفنادق في عمّان 2005، وإطلاق صواريخ في العقبة في العام نفسه، وما سميت كتائب التوحيد، بقيادة عزمي الجيوسي الذي كان يخطط لتفجيرات مهولة في العاصمة، تستهدف مؤسساتٍ سيادية، وقبل هذا وذاك خلية الألفية التي كانت تعدّ لعمليات كبيرة بمناسبة العام 2000، وبينهما اغتيال الدبلوماسي الأميركي لورانس فولي، ومحاولة اغتيال مسؤول مكافحة الإرهاب السابق في دائرة المخابرات العامة، علي برجاق. إلا أنّ ما حدث في إربد “نقطة تحوّل” في مستوى المواجهة الأردنية مع “داعش” وطبيعتها، لأكثر من سبب، في مقدمتها أنّ التنظيم نجح في إيجاد أتباعٍ مستعدين لشنّ مواجهةٍ داخليةٍ مسلّحة في الشوارع والأحياء. وهي سابقة، إذ كان أبناء التنظيم يسلمون أنفسهم عادةً في مواجهة الاعتقالات، أو يكتفون بالفرار، ولا تصل الأمور إلى مواجهة مسلّحة في المداهمات والاعتقالات، ما يدفع إلى قلق السلطات الأردنية بأن تكون هذه الخلية ملهمةً لآخرين من التيار المتنامي في الأردن للقيام بالأمر نفسه.
“القتلى السبعة من خلية داعش في إربد أردنيون، من أنصار التيار الكبير المتعاطف مع داعش، وكانوا مسلّحين بصورة رهيبة”

سابقاً، كان يُنظر إلى وجود داعش في الأردن عبر مستوياتٍ متعددة؛ أولاً احتمال وجود خلايا نائمة، بخاصة من غير الأردنيين، والذئاب المنفردة التي تنفذ عملياتٍ من تلقاء نفسها، كما فعل قبل شهور ضابط أردني يعمل في مركز تدريب عسكري، فأقدم على قتل مدرّبين غربيين، والأخطر هو تيار متعاطف أيديولوجياً وسياسياً مع داعش، يمثل جزءاً كبيراً من التيار السلفي الجهادي الأردني.
المشكلة مع العملية الراهنة أنّ القتلى السبعة من خلية داعش في إربد أردنيون، من أنصار التيار الكبير المتعاطف مع داعش، وكانوا مسلّحين بصورة رهيبة، وظهر تكتيك “الحزام الناسف” للمرة الأولى ضمن مصطلحات اللعبة الأمنية في الأردن مع هذه الجماعات المحلية. فمع هذه العملية، قد يتحرّك أبناء التيار المتعاطف مع داعش خطواتٍ أخرى للاقتراب من التنظيم، فيشعرون أنّهم باتوا، بالفعل، جزءاً منه، وليس فقط متعاطفين.
يقودنا هذا إلى محاولة تشخيص حالة التيار المؤيد لداعش في “الداخل”، على صعيد حجمه واتجاهاته ومساراته. والمعروف أنّه بمثابة جزء من سياق أكبر، هو الحركة السلفية الجهادية في الأردن التي تأسست عشوائياً، عبر جماعات وحلقات متعددة في منتصف التسعينيات، بعد ظهور شخصية أبي محمد المقدسي الذي كان يعدّ الشيخ الروحي لأبي مصعب الزرقاوي. دخلا السجن في 1995، على خلفية قضية أطلق عليها إعلامياً بيعة الإمام، وضمّت مقربين منهما. وكانت مرحلة السجن بمثابة التأسيس الفعلي لانطلاقة هذا الفكر، وازدياد أتباعه في الأردن، فكانت هنالك هيكلة داخل معابر الجهاديين في السجون. وفي الخارج، نشاط ملحوظ للمتأثرين بكتابات المقدسي التي كانت تعلن أنّ الأنظمة العربية كافرة، وأنّ الطريق الوحيدة للمواجهة هي العمل المسلّح، عبر مفهومي التوحيد (الحاكمية) و(الجهاد).
بدأت الخلافات تبرز بين الزرقاوي وشيخه المقدسي الذي استمر في السجن بعد خروج الزرقاي من الأردن، وشعر بأنّ الأخير اختطف التيار الذي بناه هو أيديولوجياً وروحياً، فوجّه رسالة إلى الزرقاوي (حين كان قائد القاعدة في العراق) بعنوان “مناصرة ومناصحة”، وكنتُ أول من كتب عنها إعلامياً حينها، ثم تطوّرت الخلافات بينهما، لتنعكس على التيار السلفي الجهادي الأردني، فينقسم إلى قسمين؛ يضم الأول القيادات المحلية، وهو موالٍ للمقدسي، ويضم الثاني جيل الشباب الجديد العنيف، وهو موالٍ للزرقاوي.
خلال وجوده في العراق، كان الزرقاوي يتطلّع إلى الأردن، ويسعى إلى الانتقام من المخابرات، كما وعد حينها رئيس قسم مكافحة الإرهاب، علي برجاق، عندما قال له: سأخرج وأنتقم منك. وبالفعل، كاد أن ينجح لولا أن القدر تدّخل، وقُتل آخرون محل برجاق، لكنّه (أي الزرقاوي) تمكّن من تنفيد عمليات كانت أكبرها تفجيرات الفنادق التي نفّذها عراقيون.
بعد مقتل الزرقاوي، نشط المقدسي في الانقلاب على المنهج الذي غرسه الأول في صفوف تيار الجهاديين الأردنيين، ودبّت الخلافات الداخلية خلال الأعوام 2006-2011، في صفوف التيار، وتراجع تأثيره، وسرّب أتباعٌ للمقدسي وثيقةً مهمةً عرضها على الدولة، تتضمن فتوى بعدم جواز العمليات العسكرية في داخل الأردن، وبعض المراجعات الجزئية، من دون الوصول إلى مراجعاتٍ شبيهةٍ بما حدث في مصر وليبيا والمغرب. في الأثناء، كان تنظيم الزرقاوي، بعد مقتله، يتعرّض لانحسار شديد في العراق، على يد الصحوات 2007-2008، وظنّ بعضهم أنّه تلاشى وتفكك، قبل أن يعود إلى البروز في 2013، في المشهد السوري، وتخرج الخلافات إلى العلن بينه وبين جبهة النصرة والقاعدة المركزية من ورائها.
في الأردن، تغير الأمر أيضاً مع الثورات العربية، ونجح المقدسي في لمّ أغلب التيار السلفي الجهادي تحت جناحه (على الرغم من وجوده في السجن)، ونظّم التيار مظاهرات ومسيرات سلمية، للمرّة الأولى، تطالب بالإفراج عن معتقليه في السجون، وبمعاملتهم بصورة أفضل. وكانت المؤشرات تدفع إلى أنّ “خط المراجعات” والتكيف الأيديولوجي مع المرحلة الجديدة هو الناجع، إلى أن حدثت مواجهاتٌ عنيفة بين أنصار التيار، خلال مسيرة في الزرقاء، وبين قوى الأمن في 15 إبريل/ نيسان 2011، انتهت إلى اعتقال أكثر من مائتين، وتوجيه التهم لأكثر من 150، وردّت الاعتبار مرّة أخرى لخط الزرقاوي الذي يؤمن فقط بالسلاح لمواجهة السلطات، ويرفض “التكتيك السلمي”!
تعزّزت الخلافات بين الجناحين، ووصلت إلى الاتهام والتخوين، بعدما ظهر تنظيم الدولة الإسلامية، معلناً عن تأسيس “الدولة الإسلامية في العراق والشام”، ثم السيطرة على الموصل، وصولاً إلى “إعلان الخلافة”، وتحقيق انتصاراتٍ عسكرية ساحقة في 2014. في ذلك الوقت، كان أحد المنظّرين الآخرين في التيار السلفي الجهادي، أبو قتادة، (أردني من أصل فلسطيني) يسلّم إلى الأردن، ويُحاكم لينال البراءة، وينضم إلى المقدسي في عملية نقد تنظيم الدولة الإسلامية، ومحاولة تصحيح مسار التيار، ما أدى إلى انقسامه إلى تياريْن منفصليْن تماماً، متضاربيْن ومتحاربين أيديولوجياً.
اعترف لي المقدسي، في مقابلةٍ خاصة، بأنّ الأغلبية من التيار السلفي الجهادي باتت مع جماعة تنظيم الدولة الإسلامية، وأنّ الجيل الشاب الصاعد (أطلقنا عليهم سابقاً مصطلح الزرقاويين الجدد) بات مع تنظيم الدولة الإسلامية ضد القاعدة وجبهة النصرة ومنظّري السلفية الجهادية في العالم، وفي مقدمتهم المقدسي وأبو قتادة.
“وصل عدد المتأثرين بالداعشية إلى الآلاف، بعضهم معروف وآخرون غير معروفين، نظراً لسرعة التجنيد عبر شبكة الإنترنت”

في البداية، منذ 2011، بدأ مئات من أفراد السلفية الجهادية في الأردن يغادرون إلى سورية، لينضموا إلى جبهة النصرة (عندما كانت متوافقة مع القاعدة وتنظيم الدولة في العراق). وعندما برزت الخلافات بعد أعوام، أخذت النسبة الجدية من المهاجرين الأردنيين إلى ساحات القتال تحرف بوصلتها نحو داعش، حتى إنّ نسبةً ممن كانوا قد ذهبوا إلى جبهة النصرة توجّهوا إلى داعش.
ثمّة مؤشرات على جيل “جهادي” جديد خطير، تشكّل في الأعوام الماضية في الأردن، إذ وصل الفيروس إلى الشباب الأردني، حتى ممن لم تكن لهم سابقة في السلفية الجهادية، فهناك مئات الشباب الذين غادروا إلى العراق وسورية، في العامين الماضيين، من مؤيدي داعش، تفيدُ معطيات بأنّ نسبة جيدة منهم من ذوي الشهادات الجامعية، ومن أبناء الطبقة الوسطى، بخلاف الصورة التقليدية عن التيار، قبل ذلك، من أنّ أغلب أبنائه من الطبقة الكادحة وغير المتعلمة. كما أنّ التيار وصل إلى تعزيز حضوره في محافظاتٍ لم يكن لديه فيها حضور كبير، مثلما فعل في إربد، في الأعوام الماضية، وفي عمّان الشرقية، بينما ما يزال معقله الرئيس في الزرقاء والرصيفة، وله وجود في السلط ومعان. ووصل عدد المتأثرين بالداعشية إلى الآلاف، بعضهم معروف وآخرون غير معروفين، نظراً لسرعة التجنيد عبر شبكة الإنترنت، وهنالك اليوم مئات في السجون الأردنية، لترويجهم أفكاره، فيما هنالك قرابة ألفي أردني يقاتلون إلى جواره مع النصرة (تشير تقديرات رسمية حكومية إلى 1200 مقاتل في الخارج فقط).
بالنتيجة؛ على الرغم من نجاح الأجهزة الأمنية في الحيلولة دون وقوع عمليات أمنية كبيرة، كما حدث في الدول الأخرى، في الأعوام الماضية، إلا أنّ هنالك تنامياً في حجم هذا التيار وتغيراً في نوعية الأفراد الذين ينتمون إليه، ما يعني أنّ ثمّة شروطاً محفّزة متوافرة لهذا الخط التصاعدي!

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى