هل الحَرب بين إيران وإسرائيل باتت وَشيكَةً؟ وكيف سَتكون.. مُباشَرةً أم بالإنابة على الأرض السوريّة واللبنانيّة؟ ولماذا نَعتقد أن إسقاط الطَّائِرة “إف 16” مُجرّد قِمّة جبل الجليد الذي يُخفي مُفاجآت قادِمة؟ وكيف سَيكون “المُفجِّر”؟
عبد الباري عطوان
العناوين الأبرز لمُعظم الصُّحف ونَشرات الأخبار في مَحطّات التَّلفزة الإسرائيليّة في اليَومين الماضيين، تُؤكّد أن المُواجهة الكُبرى مع إيران باتت مَسألةَ وقت، لأن إسرائيل لن تَقبل بوجود قواعدَ إيرانيّةً على حُدودها، وذهب يؤاف غالانت، وزير البناء والإسكان الإسرائيلي، إلى درجة المُطالبة “بتَفكيك مُثلّث الشَّر المُكوّن من إيران وسورية وحزب الله”.
هذهِ العَناوين لا تَعكِس شُعورًا بالقُوّة، بقَدر ما تَعكِس حالةً من القَلق والرُّعب دَخلت مَرحلة الهيستيريا، وكُل هذا بسبب تَسلّل طائِرة بدون طيّار “درونز” إلى أجواء الجليل الأعلى المُحتل، وإسقاط طائِرة تُعتبر الأكثر تَقدّمًا في التَّرسانة العَسكريّة الإسرائيليّة بصاروخ سوري قَديم انتهى عُمره الافتراضي، وأصبح خارِج الخِدمة عَمليًّا مُنذ السبعينات.
إسقاط طائِرة “إف 16” الإسرائيليّة في نُسخَتها المُعدّلة والمُتطوّرة تكنولوجيًّا وعملياتيًّا، نُقطة تحوّلٍ عسكريٍّ رئيسيّة تُذكّرنا بإسقاط صاروخ سوفييتي أرض جو من طِراز “S_75” لطائِرة تجسّس أمريكيّة من نوع “VZ” في الأجواء السوفييتيّة في أيّار (مايو) عام 1960 في ذَروة الحَرب البارِدة بين القوّتين العُظميين، وفي زمن أقوى زعيمين فيهما، دوايت آيزنهاور (أمريكا)، ونيكيتا برجنيف (الاتحاد السوفييتي) إسقاط طائِرة التجسّس الأمريكيّة المُتطوّرة والاستيلاء على أجهِزَتها كان ضَربةً قويّةً لأمريكا كَلّفتها عَشرات المِليارات من الدولارات في حينها، لاضْطِرارها إلى بِناء طائراتِ تجسّس جديدة بأجهزة جَديدة لا يَعرِف السوفييت أسرارها.
هذهِ هي ثالِث طائِرة من طِراز “إف 16” تَسقُط في الأجواء العربيّة، الأولى مَغربيّة في أجواء اليمن أسقطها الحوثيون، والثانية أُردنيّة كان يَقودها معاذ الكساسبة، وأسقطها مُقاتلو “الدولة الإسلاميّة” في أجواء العِراق، أمّا الثالثة والأهم فهي الإسرائيليّة بصاروخٍ سوريّ.
***
الطائِرتان المغربيّة والأُردنيّة من النَّوع القديم الذي خَرج من الخِدمة، على عَكس الطائرة الإسرائيليّة الحديثة والمُتطوّرة، ولهذا فإنّ قيمة هذهِ الطَّائرة وسُمعتها في الأسواق العالميّة العَسكريّة قد تَنهار تمامًا، مِثلما نجحت صواريخ “حزب الله” في تَدمير سُمعة دبّابة “المِيركافا” التي نافَست نَظيراتها الألمانيّة (ليوبارد) والأمريكيّة (أبرامز)، ودَفعت دولة مِثل الهند للتقدّم بِشراء صفقة كُبرى من نَوعِها (ميركافا) بحَواليّ مِلياريّ دولار، كمُؤشّرٍ على تَدهور سُمعَتِها وجاهِزيّتِها.
إيران لن تَنسحب من سورية، لأنّها لم تأتِ إليها غازية، بل بدَعوةٍ من حُكومتها، حارَبت على أرضِها ما يَقرُب من السِّت سنوات، قدّمت خِلالها تضحياتٍ بشريّةٍ وماديّة ضَخمةٍ، ولَعِبَت دورًا كبيرًا في بَقاء الدولة السوريّة ورئيسها، في مُواجهة مُؤامرة أمريكيّة وإقليميّة غير مَسبوقة، والشيء نَفسه فَعله “حزب الله” اللبناني ذِراع المُقاومة العَسكري الضَّارب في لبنان والمِنطقة، ومُطالبة وزير إسرائيلي بِتَفكيك هذا “المُثلّث” وإعادة إيران وقُوّاتها إلى داخِل حُدودها، تَعكِس سذاجة سياسيّة ووقاحة فَجّة في الوَقت نَفسِه.
حتى لو افترضنا نَظريًّا، وسايَرنا التَّهديدات الإسرائيليّة التي وَردت على ألسِنة الجِنرالات وكِبار السِّياسيين في تل أبيب، وسَلّمنا بأنّ احتمالات الحَرب بين إيران وإسرائيل باتت مَسألة وَقت، فأينَ سَيكون مَيدانها؟
هناك احتمالان في هذا الصَّدد يجب أخذُهما في عَيْنْ الاعتبار:
الأول: أن تقوم إسرائيل بإرسال طائِراتها لقَصف إيران ومصالحها الحيويّة، ومَحطّاتها النوويّة، وبُناها التحتيّة الاقتصاديّة والعَسكريّة في عُدوانٍ مُباشِر.
الثاني: أن تكون هذهِ الحَرب بالإنابة على الأراضي السوريّة واللبنانيّة.
الاحتمال الأول ضعيف، لأن إيران تَبعُد عن فِلسطين المُحتلّة بأكثر من ألفيّ ميل تقريبًا، وهِي بمَثابة شِبه قارّة، ولو تَمْلُك القِيادة الإسرائيليّة أي أمل ولو بَسيط في النَّجاح، وهِي التي هَدّدت بقَصف إيران وتَدمير مُنشآتِها النوويّة طِوال السنوات الثمانية الماضية، لفَعلت ذلك دون تَردّد، ومن هُنا فإنّ الاحتمال الثَّاني هو الأكثر تَرجيحًا ولكن هُناك مَخاطِر جَمّة.
أوّل هذهِ المخاطِر الوجود الروسي والسياسي والعَسكري القوي، ولا نَعتقد أن الرئيس فلاديمير بوتين سيَسمح لإسرائيل بتَدمير أبرز إنجازاته الاستراتيجيّة في سورية، وثانيها أن هُناك مِئات آلاف من الصَّواريخ ستَضرب العُمق الإسرائيلي وتَدمير المُدن الرئيسيّة فيه، فإذا كانت طائرة إيرانيّة مُفترضة بدون طيّار (درون) قيمتها 350 دولارًا اخترقت الحُدود وأدّت إلى إغلاق مطار بن غوريون لعِدّة ساعات، وفَتحت الملاجِئ في حيفا وتل أبيب، وإسقاط طائِرة إسرائيليّة في مِصيدةٍ جَرى نَصبها بإحكام، فكيف سيكون الحال عندما تَهطُل هذهِ الصَّواريخ العربيّة والإسلاميّة مِثل المَطر من لبنان وسورية وإيران وقِطاع غزّة؟ وثالثها عَودة الجيش العربي السوري الذي اكتسب خِبرة قِتاليّة عالية، وجَرى تطوير قُدراتِه العَسكريّة والتقنية وباتت جاهزيّته للحَرب أقوى من أيِّ وَقتٍ مَضى؟
إيران ليست بحاجَةٍ إلى بِناء قواعِد بحريّة أو جويّة في سورية، فكُل الأراضي السوريّة مَفتوحة لها، مِثلما هي مَفتوحة لمُقاتِليها وفصائِلها المُسلّحة الذين جاءوا من باكستان وأفغانستان ومُستعدّون للقِتال حتى الشَّهادة في أيِّ حَربٍ تَخوضها، خاصَّةً إذا كانت ضِد إسرائيل التي تحتل القُدس والمَسجد الأقصى.
مُفاجآة إسقاط الطائرة الإسرائيليّة بصاروخ قديم قد تكون قِمّة جبل الثلج التي تُخفي مُفاجآتٍ أُخرى أكثر خُطورةً وفاعِليّة عَسكريًّا، ولا نَستبعد أن يَكون هذا الصَّاروخ (إس 200) جَرى تطويره وتَحديثه من قِبَل الخُبراء السوريين والإيرانيين واللبنانيين لإيصال رسالة لإسرائيل تقول (ما خَفِيَ كان أعظم)، وإيّاكم أن تَختبِروننا فقد نُعيدُكُم إلى العَصر الحجري.
***
إسرائيل ربّما تَملُك ترسانةً عسكريّةً قويّةً ولكنّها لا تستطيع تدمير إيران التي تَفوقها حَجمًا بأكثر من خمسين مرّة، ولكن إيران وحُلفاءها يستطيعون تدمير إسرائيل، وبأسلحةٍ تقليديّةٍ فقط، فزَمن التفوّق الجويّ الإسرائيليّ الذي كانَ يَحسِم الحُروب ضِد العَرب قَد ولّى، وباتَ العُنوان الأبرز للفَوز في الحُروب، أو تجنّب الهَزيمة، فيها هو الصُّمود، وإطالة أمدها، والحِلف السُّوري الإيراني اللبناني الفِلسطيني (المُقاوِم) لم يَصرُخ أوّلاً، وفي كل حُروبِه السَّابقة، ولن يَصْرُخ أوّلاً في الحُروب القادِمة التي بات أكثر استعدادًا لها نَفسيًّا وعَسكريًّا.
أخطر ما في “إنجاز” إسقاط الطَّائرة أن إسرائيل فَقدت هَيبتها العسكريّة، أو جُزء كبير مِنها، وإعادة الثِّقة إلى الشارع العربي، والقُوّة إلى مِحور المُقاومة، وتَغييره لمُعادلات القوّة والرَّدع في السَّماء وعلى الأرض معًا، وكُل هذهِ التهديدات والأحاديث الإسرائيليّة عن إصابة 12 هَدفًا سوريًّا وإيرانيًّا في سورية، والتي رَدّدها بَعض العَرب للأسف، هو لِطَمأنة الرأي العام الإسرائيلي، ورَفع مَعنويّاته المُنهارة، ومُحاولة التَّخفيف من حِدّة الوَجع.
الحَرب في حال اشتعالِها بين مِحور المُقاومة، ولا نَقول إيران وَحدها، ودولة الاحتلال الإسرائيلي سَتكون إسرائيل هي الاختبار الحَقيقي والأخير لها، أي إسرائيل، ولا نَعتقد أنّها ستَجتازه بِنجاح هذهِ المَرّة، أمّا إيران وسورية ولبنان وفِلسطين فهِي باقِية ومَغروسة جُذورها في الأرض ومُنذ آلاف السِّنين، ولهذا تَحتَمِل “اختبارات” أُخرى.. والأيّام بَينَنا.