
الأب يعقوب ابن الحجازين – أرومة من أرومات العروبة
تفاجأت قبل أسبوع وقد تطرق حديث أتبادله مع الصديقة العزيزة الأخت العروبية تيريز حداد إلى علاقتي مع من أعتبر نفسي واحدا منهم: آل الحجازين الكرام فبينما كنت أذكر لها مواقفهم الودودة العديدة ذكرت فيها الأب يعقوب حجازين . فتفاجأت بإعلامها لي بأنه توفي . فتعجبت من تقصيري غير المبرر وقمت بإجراء حسابات الزمن فوجدتني وقتها خارج الأردن .
ماذا أقول عن الحجازين بعامة وعن الأب يعقوب بخاصة ، وهو الذي كان فتوة في شبابه قبل أن يلتحق بخدمة الكنيسة. وكان اسمه يتناسب مع الفتوة “عقلة”. فحمل الفتوة معه إلى الكنيسة وخدمتها، ولما كانت مناداته بالأب عقلة ” غير راكبة فقد أصبح اسمه الأب يعقوب.
أتكلم عن الحجازين في أحلك الأيام التي مرت بي عندما أتهمت زورا وبهتانا بالعمل على آخر ما يخطر ببالي : انقلاب على النظام وذلك عام 1992 وحكمت بالإعدام بعد أن كنت كرئيس للجنة التحقيق النيابية على وشك توجيه الاتهام لبعض كبار القوم في تسع ملفات حقق فيها المدعي العام الأستاذ محمد كريشان وأحالها لنا حسب الدستور لأنه اصطدم بعقبة عدم قدرته على توجيه الاتهام الذي استقرت قناعته وضميره على وجوب توجيهه فيها (مثلا رئيس الديوان الملكي الحالي وصلني ملفه بتهمة فساد كوزير للتموين في نهاية الثمانينيات ) .
ففي الأسابيع الثلاثة الأولى من اعتقالي لم يجرؤ أحد من خارج خط الإعلام الرسمي وكتاب التدخل السريع أن يكتب كلمة تذكرني بخير فكانت قضيتي كما تم تركيبها تملأ الصفحات الرئيسية للصحف اليومية وأخبار التلفزيون الأردني ولا يجرؤ أحد على مخالفة الخط العام وخصوصا وأن الشك قد غمر قلوب كثير من المواطنين “ببركات” الإعلام الرسمي . وكان أول من كسر الحاجز الإعلامي الأخ العزيز فهد الريماوي في مقالة له في “أخبار الأسبوع” التي لم تكن للأسف واسعة الانتشار وهو عمل متوقع من صديق شغله الشاغل العملين السياسي والصحفي . وكانت الصحف الأسبوعية فقد تأخرت أسابيع ثلاثة قبل أن تتجرأ على الخوض في الدفاع وكانت حاملة اللواء وقتها بلا منازع صحيفة شيحان واسعة الانتشار محليا وعربيا والتي كان يمتلكها ويشرف عليها بجرأة إعلامية مهنية مميزة اشتهرت عنه بعد ذلك الدكتور رياض الحروب ، كما أبدع فيها في التغطية يومها محررها السياسي نضال منصور الذي تعرض لمضايقات أمنية عالية المستوى بسببها. حتى إن مبيعاتها في العالم العربي مثل اليمن وسوريا تضاعفت أضعافا عديدة، وفي الأردن كانت تنفد في أول ساعة من ساعات يوم الخميس. كان صاحب أول مقال كسر الصمت مواطن لا أعرفه ولم أسمع به من قبل إذ أنه غير مسيس وليس إعلاميا ، بل انسان مسيحي متدين ملتزم كنسيا وليس يساريا أو شيوعيا أو بعثيا كعادة من يتسيس منهم وهو الأستاذ المحامي عادل حجازين. عندما قرأت المقال الذي هرب لي داخل السجن بكيت وبقيت أبكي كلما أعيد قراءته متأثرا بشهامة الكاتب الذي عنون مقاله بعنوان: “إلى ليث الذي لا أعرف”. وقد تسبب هذا المقال في فتح الباب على مصراعيه للإقراج عما في قلوب عشرات الكتاب فانهالت المقالات المدافعة عني في جميع الصحف الأسبوعية بلا استثناء وسكتت حتى أية مقالات سلبية في الصحف اليومية فيما عدا التغطية الإخبارية التي يسيرها الادعاء العام.
خرجت من السجن بعد أقصر محاكمة ومدة توقيف ( 70يوماً) انتهت بحكم إعدام ثم عفو عام تم العفو فيه بالإضافة لي على كل المفسدين الذين لم يعد بالإمكان توجيه أية اتهامات لهم (ضرية معلم” وأدت مكافحة الفساد ودفنته ). وتعرفت على عادل الذي أبلغني أن عشيرة الحجازين مصرون على دعوتي للعشاء في منزله في الزرقاء وقد ذبح كرامهم قاعودا تكريما لي . وكان على رأس المستقبلين الأب يعقوب بوده ولطفه وخفة دمه المعروفة وكانت أمسية من أجمل الأمسيات. لقد هزت مقالة عادل الدولة والمجتمع لصدقها ولانتفاء أية علاقة بين سياسي إسلامي ومواطن مسيحي متدين لا علاقة له بالسياسة. فقد عبر عادل عما في ضمير الناس مما كانوا يخشون المجاهرة به. وقد تعرض للعتاب إذ اتصل به وزير الإعلام المحسوب على الإسلاميين قائلا : “ما هذا يا أستاذ عادل لقد خربت علينا”.وعلى العكس من ذلك فقد ساندته عشيرته الكريمة حتى بلغني أنه كن يحضر جنازة يترأس الواجب الديني فيها الأب يعقوب الذي لمحه من بعيد فرفع صوته من فوق رؤوس الحضور مناديا : ” لقد بيضت وجوهنا يا عادل”. هذا حدث قبل 24 سنة ولا يتخيل كثير من القراء وجلهم لم يكن واع في تلك المرحلة ، لا يتخيل أحدهم مقدار الشهامة والنبل والبطولة التي مارسها الأب يعقوب وعادل وجميع الحجازين وكانوا يستطيعون مثل كثير من غيرهم أن يبقوا مجرد متفرجين فلماذا يكلفون الخاطر بالدفاع عن إسلامي لم يلتقوه من قبل في وجه دولة عاتية بل يتابعون أداءه السياسي فقط عندما رفعوا صوتهم ملتزمين الاستقامة التي أمرهم بها دينهم بما يعتبرونه حقا في وجه جبال من الظلم الذي تمارسه الماكينات الإعلامية والأمنية لدولة اختارت أن تظلم في تلك القضية. فبئس أي تدين لا يرتقي بالمتدين إلى سمو الخلاق .
حدثني الأخ عادل عن السبب المباشر الذي هزه ليكتب المقالة التاريخية المفصلية . إنها ابنته العزيزة “أيام” التي كانت في الثانية عشرة من عمرها المديد إن شاء الله . كانت تلتفت إليه عند ظهور صورتي على التلفزيون وتقول له : “بابا هذا مظلوم ! هذا ما بيعمل اللي بقولوا أنه عمله”.
وأختم في ذكرى الأب يعقوب الطيبة بسرد قصة جرت معي في أحد أعياد الأضحى في منتصف التسعينات وتدور حول جملة مواقف راكمها معي الحجازين صدف حدوثها جميعها قبيل يوم العيد . زيارة للسماكية صليت فيها المغرب في الكنيسة وأولم لنا الأخ شاهر بحضور طيب الذكر غضيان رئيس البلدية ، ثم في حدث منفصل أصر الحبيب موسى حجازين الحائز على الميدالية الذهبية في الصدق وخفة الدم أن يكرمني بدعوتي والعائلة لحضور مسرحيته وفي اليوم التالي اتصل بي العزيز أبو أيام مهنئاً بالعيد وفي اليوم الذي يليه وكان صبيحة عيد الأضحى ذهبت إلى المطار مغادرا إلى ألمانيا في زيارةعمل ليوم واحد فإذا بالعميد عصام الحجازين طيب الله ذكره المسؤول عن الحدود والاجانب في المطار (وكان رائدا يومها) يشاهدني فيصر أن يصحبني حتى باب الطائرة . فكتبت مقالة في الطائرة أبرقتها لجريدة الرأي بمناسبة عيد الأضحى المبارك اخترت لها عنوانا : “عيدكم مبارك يا حجازين” ذكرت فيها الدلال الذي دللني فيها الحجازين طوال الأسبوع الذي سبق العيد.
هذه علاقتي بطيب الذكر العزيز الأب “عقلة ” وبعشيرة الحجازين الذين تضرب جذور أخلاقهم العربية في أعماق تاريخ جنوبنا الحبيب إلى ما قبل ظهور الدعوة المحمدية المباركة. وبهذا الخصوص ألتزم أحد المبادئ الراسخة في أخلاق عشائرنا العربية المتمثل في مقولة “راعي الأوله ما يلتحق”. فمهما فعلت فلن ألحق مكرمة الأب يعقوب والأستاذ عادل فهما وعشيرتهما الكريمة العزيزة الغالية ” راعو الأوله”. ولن أنس لا أنا ولا أولادي لهم هذا الفضل.