” ليلة الأمس .. لمحتُ وصفي ” / محمود الزعبي

” ليلة الأمس .. لمحتُ وصفي ”

كان النوم يقاومني ، أرقٌ هنا ، أرقٌ هناك ، منتحرٌ في مدينة ، مسجونٌ في أخرى ، فقيرٌ يشهق كرامته ، جائع يخفي صراخ أمعائه ، أم تبكي ولدها الذي قتل على المعبر ، نسورٌ تكسرت أجنحتها ، و الرجال مقعدون !
كنت أباغت النوم بإرخاء جبيني و إغلاق عيوني ، محاولاً التلاعب بكبريائه الصارخ ، لكنه قاومني ، و قاومني ، حتى أعلنت له استسلامي ، فتركني أخيراً .. و نمت !
هبت عواصف رعدية في الحلم ، لمحت مِعولاً ، و فلاحين يمسحون عرق جباههم بحفنات التراب ، لمحت جنوداً يبتسمون ، لمحتُ المدينة حين شبابها ، نساءٌ يرتدين البشاكير ، و يخبزن على التنور ، و أطفالٌ يقلدون الكبار ، فيطهون بضع حبات من الكوسا المحشو بالأرز في علبٍ حديدية على نار من أغصان محترقة ، و آخرون يركبون الجمال ، و يأمرون و ينهون ، كالكبار تماماً ، ثم يضحكون ، و تنتشي اتربة المدينة .
كان كل شيء يدلل على القرب من الأرض ، ليس هنالك بنايات ترفعك شققها و تبعدك عن رائحة التراب ، ولا سيارات تمنع قدميك عن ( التعفر ) به صباحاً و مساءً ، ولا شيء من الخضار قد أتى من قارة أخرى ، فكل ما يأكله الناس هنا مزروع في الأغوار ، أو في جبال عجلون ، أو في سهول حوران ، حقاً ، كان كل شيء من البلد و للبلد .
خطفني الحلم الى ساحة المسجد الكبير في مدينة إربد ، لم يكن أحداً هناك ، سمعت صوتاً ، سمعته يناديني :
تعال إلي ..
كان الصوت قادماً من جهة أراها جيداً ولا ارى أحداً فيها ، إقتربت لأعذر نفسي حلمي ، فرأيته ، نعم ..
رأيت وصفي واقفاً كالجبل ، رفعت رأسي تجاهه فلم أصله ، فاحترمت المسافة بين رأسينا و سألته متعجباً :
وصفي ؟
قال : نعم ..
قلت و الإرتباك يغزوني :
إذن ، لم يغتالوك ، ها أنت بيننا حياً ..
لم يجبني ، بل أدار ظهره و مشى بضع خطوات ، ثم التفت إليّ و هو ينفث سحب الدخان التي شهقها من غليونه الأسود ، و قال :
كيف حال الأردن يا ابني ؟
نكست رأسي قليلاً و قلت بعد دوار مشى في أذرعي :
الأردن بخير ..
فصرخ بي بصوته الثقيل :
إرفع راسك يا ولد ، تنكيسة الراس مش للأردني ..
فرفعت رأسي بسرعة البرق ، و انمحق الدوار فجأة ، و حلت مكانه المشاعر الوطنية ، فسألني :
شو صاير بالبلد ، وين رجالها ما يبهدلوك لما تنكس راسك ،
وين عزيمتك يا ولد :
فقلت له :
يا وصفي ، رجال البلد ماتوا ، و الشعب ضاع ..
سألني مستنكراً :
كيف ماتوا ؟ ما يكونوا الاسرائيليين غلبوكوا ؟
قلت له :
لا ، بس الزلم بطل الله يعنيهم ، و باعوا شرفهم بالملايين ،
و تركونا بنص الطريق !
صرخ بي :
لما طبن الرصاصات بجسمي و زفرت الروح ..
قلت وراي رجال ، و تشاهدت و أنا مبسوط ، وين راحوا ؟
قلت له و كلي حياء :
ماتوا معك ، و البقية خافوا من الرصاص ، و تركوا طريقك ،
و حطوا كرامة الأردني على البسطات ، و باعوها بالعملة ؟
تنهد تنهيدة المخنوق ، ثم سألني :
بتعرف وين داري يا ولد ؟
أجبته سريعاً :
اه بعرفها ، أؤمرني و أنا حاضر ..
قال لي :
ما يؤمر عليك من باع أهله ، بتروح للدار ، بتبحش بالتراب اللي بيمين الساحة ، قبل ما أسافر لمصر ، خبيت هناك رسالة ، توقعت أموت ، و خليتها رسالة لتراب البلد حتى الأبد ، بس ما توقعت يموت كل الرجال مرة وحدة ، روح أخذ الرسالة ، و اقرأها ، و خبي حروفها بقلبك ، و ارجعها بعدما تخلص للتراب ، و اقسم عترابها المكتوب بالورقة ، و اصحك تنسى اللي فيها ، أمنتك عالرسالة ، و عالتراب ، سلم عالأردن يا ولد ، سلم عالحبايب !
ثم اختفى وصفي فجأةً ، ناديتُ ، صرختُ :

وصفي .. وين رحت
البلد بحاجتك
وصفي لا تروح
وصفي
و ص ف ي
و ص ف ي …….. !

هرعت بعد اختفاءه صرعاً الى بيته الذي صار مزاراً ، كان الفجر يوشك على البزوغ ، تسللت الى داخل الساحة كي لا يراني أحداً ، دلني قلبي على المكان حين أتاهني فكري ، اقتربتُ ، حفرت التراب بأصابعي ،
امتلئت يديّ بالتراب ، حفرتُ أكثر ، و أكثر …….
فوجدتُها !
وجدتُ الرسالةَ ملفوفةً بقطعة قماش ، سحبتُها ، مسحتُ التراب عنها ، ثم فتحتُها متلهفاً .
لم يكن فيها الكثير من الكلمات ، تفاجئتُ ، قرأت و العتمة تكاد تُعميني ، قرأت فيها بضع كلمات ، كان مكتوب فيها :
كرامة الأردنيين لا يحميها إلا الرجال
و انا أقسمت لك يا تراب أن أكون رجلاً
فحفظت كرامتهم ، و لن أجبن يوماً يا تراب
فما دام مصيري أنت .. فلا فرق بين الحياة عليك
و الحياة فيك !

مقالات ذات صلة

فأقسمت أنا مثلما أقسم وصفي ، و أعدتها الى التراب ..
ثم رفعت رأسي ، فأيقظني صوت التلفاز يتسرب من خارج الغرفة ،
فوجدت فيه صورة الذين أخبرت وصفي عنهم ، اولئك الذين باعونا ،
فنكستُ رأسي ، فتذكرت بغتةً صيحة وصفي .. و القسم الذي أدليته على التراب ، فرفعتُ رأسي ..
استندت مثل الصخر .. و قلت :
احنا رجالك .. جايينك يا بلد !

محمود الزعبي

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى