نعم لوثيقة للاعلام لتحصين حرية التعبير المسؤول
الحرية فضيلة إنسانية مقدّسة , وقضية مصيرية تستوجب التضحية بالنفس والنفيس إلاّ أنّها إذا انفلتت من زمام العقل الصحيح والفطرة السليمة تحولت إلى فوضى عبثية مدمرّة تنزل بالإنسانية إلى درك أسفل من مرتبة الحيوان , والميزة التي امتاز بها الإنسان عن غيره من المخلوقات المنظورة أنّه ملزم بتحمّل مسؤولية ما يصدر عنه من قول أو فعل .
وحرية الكلمة والتعبير من أهمّ ركائز الحياة الإنسانية التي بها تستقيم وترتقي , فألسنة الخلق الصادقة هي شهود الحقّ بها تنمو الفضائل وتذوي الرذائل , ويتنافس الجميع على ما يستوجب الحمد , ويبعد عن الذمّ , فقد قال رجل ما أبالي أهجيت أم مدحت، فقال الأحنف بن قيس: أرحت نفسك من حيث تعب الكرام ” , والعجيب أنّ كثيرا ممن أراحوا أنفسهم مما يتعب له الكرام قد غطوا على مسلكهم هذا بدعاوى النسك والتدين والابتعاد عن الرياء , وجهلوا أو تجاهلوا أنّ أبو الأنبياء وخليل الرحمن إبراهيم عليه السلام قد دعا ربّه أن يسخّر له الألسنة الصادقة لتنشر فضائله وتدافع عنه وعن دعوته , فقال ” وَاجْعَل لِّي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الآخِرِينَ”
والكلمة الصادقة كما أنّها ماء الحياة لشجرة الفضائل التي بها تزدهر وتنمو فإنّها نار محرقة على شجرة الشرّ والرذيلة , فكانت من أشدّ الأسلحة تأثيرا وفعلا في محاربة الشرّ ونصرة الخير ؛ لذلك جاء في الحديث الصحيح ” إن من أعظم الجهاد كلمة عدل عند سلطان جائر ” , وما قامت دعوات الأنبياء والمصلحين إلاّ على الكلمة الصادقة الجريئة الطيبة .
إنّ قوى الفساد والاستبداد في كلّ عصر ومصر تدرك خطر الكلمة الصادقة المخلصة فتحرص على خنقها ووأدها , وقد قال أحد مستشاري قدماء الملوك المستبدين ناصحا له : ” إنّ العامة (الشعب ) إذا تكلمت فعلت فأحرص على ألاّ تتكلم ” وقد سار المستبدون على هذا النهج فكمموا الأفواه وحاربوا كلّ كلمة صادقة مخلصة إلاّ أن مستبدي العرب المعاصرين عندما تعرضوا للنقد من العالم المتقدّم في العقد المنصرم وفي هذه الأيام فقد تفتقت عبقريتهم الشيطانية عن خطّة لا تخطر على بال الشيطان نفسه فسمحوا للغوغاء والجهلة بحرية الشتم والسب والذم والتحقير بدعوى حرية التعبير ليضج الناس وفضلاؤهم ويطالبوا بتقييد حرية التعبير ليعودوا لتكميم الأفواه ومحاربة كلّ كلمة صادقة مخلصة بطلب شعبي ومباركة شعبية .
فليس سرّا أنّ ما يجري في الفضاء الإلكتروني هو خارج عن كل ما هو مقبول أو معقول , وهو سير في تلك الخطّة الجهنمية التي ستؤدي إلى إجهاض حرية الكلمة المسؤولة وخنقها لإنّ المقصود من حرية التعبير هو عدم الحجر على العقول لتصل إلى الحقائق لتستطيع بناء الأحكام السليمة والمواقف الصحيحة عليها إلاّ أنّ ما يجري هو خلط للحقّ بالباطل والصدق بالكذب حتى أصبح من الصعب على الخاصّة فضلا عن العامّة إصدار الحكم العقلي الصحيح واتخاذ الموقف السليم , فإن كانت الحرية فضيلة مقدسة لحفظ كرامة الإنسان فإنّ ما نشاهده من أخبار ملفقة , وتعليقات سخيفة من خفافيش تختفي وراء الأسماء الوهمية _ لهو أكبر امتهان لكرامة الإنسان وتعهير للكلمة , وتلويث لشرف القلم .
وقد كان الأمر الطبيعي أن يأتي فرض قانون المطبوعات والنشر العرفي الأخير الذي جاء لتكميم الأفواه وتحصين الفاسدين من المساءلة بدون احتجاج شعبي يذكر لأنّ الشعب كان مستاء من تلك الفوضى العارمة في حرية الشتم والتحقير التي لا ضابط لها ولا حدود .
وتأسيسا على ما تقدّم فنعم لوثيقة شرف لكلّ حملة القلم الصادقين المخلصين لضبط هذا الانفلات الفوضوي , ويعيد للكلمة حرمتها , وللقلم قدسيته , وينقذ العقول من هذا الضخّ الفوضوي الزائف الذي مسخ العقل وحوله إلى مجرد مستودع من المتناقضات الباطلة , ويحمي أعراض الناس وكرامتهم مما يتعرضون له من أذى نفسي ومعنوي من قبل خفافيش الظلام , وأصحاب النفوس الكلبية الذين يسيئون لصورة مجتمعنا المثقف الواعي الطيب , ويظهرونه بصورة همجية غوغائية لا تتقن إلاّ الشتم والافتراء وصناعة الكراهية .
والمأمول أن تكون وثيقة الشرف هذه هي المرتكز الذي على أساسه يوضع قانون عصري للمطبوعات والنشر والإعلام يقنن للحرية المسؤولة المنضبطة المتفقة مع مبادئ الكرامة الإنسانية , والقادرة على صنع الرأي العام الواعي الناضج القادر على السير بالشعب في طريق الارتقاء والنهوض ليكون الإعلام الأردني هو الرائد في هذا المجال , والقدوة لسائر بلدان العروبة والإسلام .