#موقف_عمومي

#موقف_عمومي

د. هاشم غرايبه
بين حين وآخر نسمع عن حادثة شغب في منطقة، يتخللها أحداث اعتداءات ظلامية على الممتلكات العامة والخاصة، بذريعة فورة دم عشيرة لمقتل أحد أفرادها.
مع انقضاء خمسة عشر قرنا منذ أن أنقذتنا الرسالة الخاتمة من وعثاء الجاهلية التي كنا نرتع فيها، الا أن استحضار مخازيها وشرورها ما زال قائما، وتتوارثه النفوس المتخلفة جيلا بعد جيل، وقيم العصبيات القبلية والعشائرية على رأس هذه الموروثات.
في حقيقة الأمر ليس الأمر مسألة جينات وراثية، فالتقدم البشري توصل منذ زمن طويل الى تحقيق صورة الدولة الحديثة التي تحقق الأمن المجتمعي، كونها تفرض احترام القانون وتعدل في تطبيقه، وذلك هو ما أبطل المفاهيم البالية التي كان الفرد يلجأ إليها لتحقيق أمنه، وهي التعصب القبلي والعشائري، بعد أن زالت الحاجة إليها، لكن ما يرعاها ويتعهدها بالعناية هو النظام السياسي العربي القائم حاليا، بعد أن وجد أن الإبقاء عليها مفيد له، فهي تحقق سياسة (فرق تسد)، حيث يتفكك المجتمع الى وحدات أصغر لتسهيل السيطرة عليها، كما يمكن خلق تناقضات ونزاعات بينية، تحول دون توحد الشعب ضد ناهبيه الذين هم بالعادة من محاسيب النظام السياسي وأعمدته المستفيدة من أعطياته.
والأنكى من كل ما سبق، أن العنعنات والعصبيات الفرعية تحقق مصلحة الأنظمة في استتباب الأمر لها، وبقائها بعيدة عن المحاسبة والمراقبة، لأن إغراق المجتمع بها يحقق له ولاء، وإلهاء عن الفشل والفساد الذي بات سمة عامة لأداء أنظمة (سايكس – بيكو).
لا شك أن هنالك تباين في تغلغل هذ القيم في المجتمع العربي، ففي بعض الأقطار مترسخة أكثر من غيرها، والأردن قد يكون أكثر الأقطار العربية اكتواء بهذه الحالة، وتعود جذورها الى الحكم البريطاني الذي اكتشف منفعة شراء ولاءات زعماء العشائر مبكرا في تخيف كلفة طرد العثمانيين، وبعد استتب له احتلال المنطقة، استمر في إذكاء الولاء القبلي والانتماء للعشيرة وليس للوطن لوأد نشوء حركة مناهضة لاستعماره، وبعد أن تم ما خطط له من تأسيس الكيان اللقيط وتثبيت أركانه، غادر الإنجليز المنطقة، تاركين الإرث ذاته.
منطقيا، يفترض أن تنقرض هذه النزعات التعصبية بعد كل هذه القرون العديدة، استجابة لاستحقاقات التطور الثقافي والمعرفي، لكن من أهم ما يعترض ذلك أمران:
الأول: التشجيع الرسمي لتنامي هذه الظاهرة، بمنح الزعامات العشائرية دورا أكبر من دور السلطة القضائية، والتراخي الواضح عن التصدي للمتعصبين العشائريين، والتغاضي عن أفعالهم والتسامح معهم، مقابل المسارعة والصرامة في التعامل مع أي نشاط سياسي معارض.
والثاني أن هنالك خلطا بين مفهوم الاعتزاز بالأصل وبتراث الأجداد، وبين التعصب له، فهنالك فارق كبير بين الانتماء للأصول الذي يعلي من شأن أمجاد الأجداد وجعلهم قدوة، والتعصب المقيت الذي هو استعلاء على الآخر، لأنه يؤدي الى التنازع والتفكك.
اعتزاز الإنسان بمنبته ونسبه أمر طبيعي ولا يلام عليه، إلا إن وصل الى حد الاعتقاد برفعة نسبه عن الآخرين، أو اعتبار أجداده أعلى شأنا من أجداد الغير، فذلك أمر مذموم، وهو من أهم أسباب تأخر العرب في حقبة الجاهلية، فقد كان شغلهم الشاغل التفاخر بالأجداد، والتباهي بالأنساب، مما شغلهم عن الجد والعمل، فظلوا في ذيل الأمم، وتبعاً لكل الامبراطوريات القديمة، الى أن جاءهم الإسلام فعلمهم المبدأ السامي ، وهو أن التفاضل يكون بالتقوى الذي ينتج نفع المجتمع وتقدمه، وليس لأحد فضل على آخر إلا به.
عندما اتبعوه نهضوا بسرعة قياسية، وخلال ثلاثين عاما توقف فيها ذلك التفاخر السقيم، أصبحوا قوة عظمى وسادة العالم، وما بدأ التراجع عن تلك المنزلة إلا عندما عادوا لعصبيات الجاهلية.
ذلك اثبات آخر يضاف الى آلاف الأدلة على أن ما يمكن أن يحل كل المشاكل المعيقة لتقدمنا، هو النهضة المبنية على أسس العقيدة التي أنعم الله بها علينا.
طالما نحن ننكر ذلك وننبش عن الحل في حاويات القمامة التي جاد علينا الغرب بها، فلن نتقدم خطوة واحدة، والدليل على ذلك أننا طوال القرن الماضي فعلنا ذلك، فلم ينعدل حالنا ولا زال فشلنا، بل واصلنا السير الى القهقرى، فابتعدنا أكثر فأكثر عن نقطة البدء فيما ينقذنا ويصلح أمرنا.

اظهر المزيد

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى