شد حيلك يا عبد الله …. قصة قصيرة / د. فؤاد الكلباني

شد حيلك يا عبد الله ……… قصة قصيرة
د. فؤاد الكلباني
إنه اليوم الأول من السنة الهجرية الجديدة ، يوم عادي ككل الأيام درجة الحرارة مقبولة وساعة السيارة التي يقودها عبد الله تشير إلى الثامنة صباحا ، يقود بتروٍ وينظر إلى ابنتيه الكبرى والوسطى بكثير من الفخر فها هو يقود بهما ليوصلهما إلى الجامعة ، يبتسم أحيانا في وجهيهما وأحيانا يأخذه خياله إلى حيث والدتهما ، والدتهما التي كانت قد تمنت أن تعيش لترى هذا اليوم . يمر في رأسه الكثير من الذكريات والأحلام التي رسموها سويا وكيف بدأت الحياة تبتسم لهم حينما جاء إلى صنعاء موظف من دولة عربية شقيقة ليعمل في أحد المؤسسات المالية الضخمة، وكيف كان يعمل معه كسائق خاص ويجني من المال الشيء الوفير بما يتيح له التخطيط لحياته جيدا ويقدم لبناته أفضل التعليم وخصوصا ابنته الصغرى التي ما زالت في مرحلة الدراسة المتوسطة .

كان عبد الله يسير في سيارته ليس مكترثا كثيرا بمن حوله ، وكيف له أن ينشغل بالنظر إلى ما أصبحت عليه صنعاء بعد القصف والتدمير الذي لحقها جراء الحرب وهو فيه ما فيه من الهم الكثير . يمر في الطريق وكأن سيارته أصبحت تعرف مسارها نحو جامعة صنعاء . ما كان ليتخيل حتى في أحلامه أن زوجته ستضيع منه بلمح البصر بعد اسبوعين فقط من المعاناة مع مرض السرطان ، وكيف كان يشارك صديقه العربي تطور مرض زوجته وهو لا يعلم أساسا أنها مريضة بمرض كهذا وانما كان يظن أنها تتعرض لوعكة حساسية كما أخبروه الأطباء ! يتذكر جيدا كيف تحدث مع أخ زوجته الذي يقيم في ألمانيا عن عجزهم في صنعاء على اكتشاف سر تراجع صحة اخته وكيف تيسرت الأمور بطريقة ربانية بحيث استطاع ان يستخرج الفيزا لزوجته خلال يوم واحد ويحجز لها لتطير إلى المانيا في رحلة العلاج عند أخيها ، رحلة اللاعودة ، الرحلة التي لم يرى زوجته بعدها أبدا ، فقط حطت الطائرة في مطار برلين وبعدها بسويعات كانت زوجته قد فارقت الحياة ولم تعد إلى صنعاء بعدها فقد دفنت هناك . سبحان الله – يقول في عقله – زوجته سورية ونصيبها أن تتزوج يمني ، وتعيش معه في صنعاء ، ثم يقدر لها أن تموت وتدفن في ألمانيا .

الطريق إلى الجامعة طويلة ، وعداد البنزين ليس في أحسن أحواله ، والشوارع مليئة بالحفر والمطبات والمخلفات التي خلفتها الحرب وسنوات من الإهمال ، ينظر إلى ابنتيه ويبتسم ، ويعود ليكمل الطريق ، لا يعلم أين هو الآن ولكن لا يهم هو كذلك يعتقد أن سيارته أصبحت تعرف الطريق إلى الجامعة ، سيصل في النهاية وعليه العودة وحيدا مع عداد البنزين الخاوي وذكريات اثقلت كاهله ، ومستقبلا بات مجهولا …… ماذا يصنع؟ …… لا شيئ فهو غير قادر على فعل شيء وصديقه العربي كان قد غادر سابقا البلد بعد أن بدأت نذر الحرب تلوح في الأفق . تذكر الأحاديث الأخيرة التي تجاذبها مع صديقه العربي أثناء سيرهما للعمل …….
لقد انقضى أربعون يوما على وفاة زوجتي ، يقولها عبد الله لصديقه العربي وفي عينيه نهر من الدموع … أتدري بماذا يلح علي أقاربي أن أفعل ، ينظر إليه صديقه العربي منتظرا عبد الله أن يكمل …. يلحون على بأن أتزوج …. لم يمض سوى أربعون يوما وهم يلحون علي بالزواج!!!! …… فيقاطعه صديقه العربي … ههه … وماذا في ذلك أنت رجل في بداية العقد الخامس من العمر وبناتك ما شاء الله كبرن وأنت بحاجة إلى رفيقة لك كي تكمل المشوار معك …. وأظن أن بناتك سيتفهمن الأمر … ، طبعا كان هذا الصديق يتحدث محاولا تجميل الموضوع رغم أنه غير مقتنع بما يقول وكان مذهولا من السرعة التي سيتزوج بها عبد الله ولكنه آثر أن يتحدث بما ظن أن عبد الله يريد أن يسمعه …. ثم بادره عبد الله بقوله ، المشكلة أن بناتي هن من يضغطن علي للزواج , وتدري من يرشحن لي كزوجة …. ههه …هز العربي برأسه ينتظر الإجابة ….. إنهن يردن أن اتزوج خالتهن …. خالتهن التي تصغرني بخمسة وعشرين عاما والتي جاءت من سوريا بعد الأحدات التي ألمت بهم طلبا للأمان في بيتي وفي اليمن …. وماذا في ذلك ، إنها أفضل اختيار لك ولبناتك ، على بركة الله يرد العربي .

وصلت السيارة إلى الجامعة ، ودعت البنتين أباهما بابتسامة ، وانطلق كل منهم باتجاه … سارت سيارة عبد الله في طريق العودة المعهود ، وعبد الله ما زال يمشي في طريق خياله لا يقاطعه سوى بعض المطبات والحفر أو متسول على هذه الإشارة أو تلك يطلب صدقة من شخص اقل ما يقال فيه أنه تجوز عليه الصدقة …..

مقالات ذات صلة

آخر يوم لصديقه العربي …. أوصله إلى المطار وكان الجو يميل إلى البرودة ، عبد الله يسير مع صديقه العربي إلى المطار وقد فقد احساسه بالجو , وفقد احساسه بكل ما حوله ، ها هو سيودع صديقه الذي كان يسر إليه بكل اسراره ، ويتبادل معه النصح ، فهو إنسان غير متعلم ولكن الحياة ثقفته بما يكفيه ليكون حكيما …. تمر السيارة مسرعة نحو المطار و عبد الله ذو القلب الرقيق ينظر إلى الطريق ولا يعلم إن كان لا يرى بوضوح من الأمطار التي بدأت بالتساقط أم من حبات الدمع التي بدأت تنهمر …. ودعه وهو يشعر بأن الأوقات الجميلة شارفت على نهايتها ، ولم يكن صديقه العربي يحمل مشاعرا أقل من تلك التي يحملها عبد الله ، فقد ألفا بعضهما كثيرا خلال فترة تواجده في صنعاء ، ولكن الحياة تمضي هكذا اقتنع الرجلان .

أيام قلية ويتصل عبد الله بصديقه في بلده بعد أن سافر ، كان عبد الله فرحا ، فقد تزوج من جديد وسيبدأ حياته من جديد ….. شهر آخر واتصال آخر يخبر فيه أن زوجته حامل ….. تسعة شهور أخرى ويتصل فرحا فرحا لا يوصف …… ألو…. صديقي العزيز …. أريد أن اخبرك خبرا لم اصدقه حتى الآن ، لقد وضعت زوجتي مولدا ذكرا ، لقد كان حلمي طول حياتي وها هو الآن قد تحقق ، أخير صاصبح أبو فلان …. أخيرا لن ينظر إلى اخوتي بأن شيئا ما ينقصني …. أنت تعلم كم أحب بناتي ، ولكن أحس بشعور غريب شعور رائع …. سأطير من الفرح ، ساصطحبه معي إلى المسجد يوم الجمعة ، آخذه على الحلاق العراقي الذي كنا نحلق عنده … أتذكره …. كاظم … ، يقاطعه صديقه العربي ….. ألف ألف مبروك يا عبد الله ، ألم أقل لك يا صديقي أن الله سيكتب لك الخير في النهاية … يا ليتني عندك واحتفل معك بهذا المولد ,…… الحمد لله …… الحمد لله .. ويودع كل منهما الآخر .

تذكر عبد الله ابنه الصغير وهو الآن يبلغ من العمر الخمسة أشهر ، فكأنما رجع إليه رشده ، وبدأ يدوس على البنزين بقوة أكبر حتى يصل البيت بسرعة ليقبل ابنه الصغير …..

سيارة تنحرف بسرعة أمام عبد الله يتجاوزها بصعوبة ، صوت كصوت الرعد يخترق السماء ، إنها طائرة حربية …… يا ترى ما هو هدفها …. وما هي إلا لحظات حتى ألقت الطائرة بحممها على مقربة من المنطقة التي يقطنها ، فينطلق كالمجنون ليطمئن على بيته وزجته وابنته وابنه …. يدخل الحارة وفيها الكثير من الغبار وأناس من المفروض أنه يعرفهم ولكنه لا يميز أحد منهم ، توقفت الساعة وتوقفت الدنيا وتوقف الزمن وغاب كل الناس ، فبيته هو الذي قصف من ضمن ما قصف في الحي ، بيته الذي يضم ابنه ….. بنته …. زوجته ……. أكيد أنهم خرجوا قبل القصف …… أكيد أنهم في مكان ما عند أحد الجيران وينتظرون عودتي …… ، لماذا تحدق هذه العيون بي؟! ، لماذا ينظرون دون أن يتفوه أحد منهم بكلمة؟! …… ماذا حصل؟! ….. يصرخ مطالبا من حوله بالإجابة ، والتي جاءته سريعا ….. لقد مات أبنك …. بنتك ….. زوجتك …..أنت رجل مؤمن …. شد حيلك يا عبد الله .

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى