مع الله في الارض وفي السماء

يا رب
مع الله في الارض وفي السماء
الدكتور سمير محمد ايوب

لا تكاد منظومة ايمان سماوية ، تخلو من التأكيد ، على ان الغاية من استخلاف الانسان ، هي العبادة وعمارة الارض بالعمل النافع . ولا تخلو هذه المنظومات ، مما ينظم حياة الناس وعلاقاتهم ببعضهم . فهي تركزعلى ضرورة تجسيد القيم ، التي تعزز ثقافة المشاركة ، ونبذ المُسقِطَةِ في مُستنقعات الإقصاء وإلغاء الآخر . واني ارى ان كل هذه الأصول ، لن تتحقق الا بالتعارف المستمد من روح الاستخلاف .
التعارف إن كان لذاته او لتبعاته أصل من أصول العمران الاجتماعي ، المبني على الإيمان بوحدة الإنسانية ، المختلفة الأجناس ، المتعددة الشعوب . فالله بميزان العدل والحكمة ، خلق الناس سواسية ، لا تفاضل بينهم ، ولا تفاوت إلا بالتقوى .
حينما نتحدث عن الانسانية ، نستحضر ما للوحدة من قوة ، تستطيع مواجهة جميع التحديات التي قد تتعرض لها بلا تمييز . والتي لا يمكن للفرد مواجهتها لوحده دون الاستعانة بغيره . ولذلك فإن الناس على اختلافهم يضربون في الأرض سعيا لتبادل المصالح والمنافع . يسلك بعضهم سبل الرشاد ، وبعضهم سبل الفساد والافساد .
من الطبيعي ان يتعرض مطلق إنسان خلال حياته ، لمشاكل وكوارث يصعب عليه حلها لوحده . فيلجأ الى قوى مُفارِقَة ، يثق بقدرتها على انقاذه، فيتوسلها بالدعاء . فالدعاء حاجة فطرية عابرة لكل انسان . اما في حياة المؤمن ، فالدعاء من افضل العبادات . يمارسها وهو على يقين بأن الله يُحِبُّ أن يُسألَ ، وحَضَّ خلقَه على أن يدعوهُ بحاجَتهم . ولذلك لم يجعل بينه وبينهم حِجابا . مُجيزا الدعاءَ لكلِّ الناس مِمَّنْ ليسوا مِنَّا أو مِثْلَنا . أما قبولُ الطلَبِ في أيِّ دعاءٍ مُستوفٍ لِشروطه أو عدم قبوله ، فهو لله وحده . ولكن المؤمن السوي ، موقن في العادة ، بأن رحمة خالقه تسع كل شيء .
في حمى البلاء ، ابتدع بعض الناس ، أدعية زائفة ظاهرها إيماني ، وحقيقتها تجاهل للمقاصد الربانية ، تقف في مضمونها الأناني حجر عثرة أمام الأخوة الإنسانية . والسخيف في الأمر ، أن تطور علوم الأوبئة ، لم تكف الكثير من عتاة العنصريين والطائفيين والمذهبيين ، إلى تغيير بِدَعِهم في الدعاء لأنفسهم ولجماعاتهم فقط . ظنا منهم أنهم محميون ، دون شراكائهم في الانسانية ، وان البلاء لن يصيب الا الأغيار . ولكن تطور الأوبئة وامتدادها ، افقيا وعاموديا ، كشف زيف تبريراتهم وسذاجتها . فعاد بعض غلاتهم للقول ولو على استحياء ، بأن دوران الوباء واستفحاله في الأرض ، لا علاقة له بجغرافيا أو بدين أو مذهب أو ثقافة أو منصب أو ثروة ، بل له أسباب من تصرفات الناس ، أي ناس .
سؤال العلاقة بين الدين والتدين في الفكر وفي الممارسة ، وضبط المسافة القائمة بينهما ، وتأثيراتها على القضايا المعاصرة لاي مجتمع ووحدته وتماسكه ، من الإشكاليات المقلقة ، التي ساءلت جهود رواد فكر التغيير والاصلاح . من هذا المنطلق اخترت لهذه المقالة ، النظر في نماذج من الغلو والتطرف في الأدعية السائدة لدى البعض ، وتأثيراتها على سلاسة العلاقات بين مكونات المجتمع على كل ضفاف الايمان .
في هذا ابتلاء الكورونا الذي تعيشه الانسانية جمعاء ، تشنف قلوبنا وتطرب أرواحنا يوميا ، اشكال وصيغ من الابتهال والدعاء لله تعالى ، وترتطم أسماعنا وأبصارنا في الوقت نفسه ، بالكثير من مضامين أدعية ليست مُحايدة ، بل مُثقلةٌ بِتعمُّدٍ شديدٍ بعواطف تسوِّقُ لِخطابٍ عنصري أحول ، قُطْرِيٍّ ، أو طائفي أو مذهبي ، مُخجِلٍ لأنه يدعو ربَّ كلِّ الناس ، إلى أن يرفع البلاء عن طائفتها دون إشارة إلى شركائها في الحياة من الطوائف الأخرى معها او من حولها . ظانين بحسن نية أو عن جهل أو سوء مقصد ، أنَّ الله لم يهد قوما سواهم . متناسين حق كل ملل الناس ، في الحياة السليمة الكريمة .
وحين أقرأ لأصحاب الفُرقَةِ الإيمانية في أيِّ مجتمع تعددي ، أو أستمع لمنطق أدعيتهم المثقلة بثقافة تحتكر الرب لها ، المُصادِرَةِ لحسابِ المصالح ودرء المفاسد ، تذهبُ نفسي إشفاقا وحسرة عليهم ، وعلى ما فيه من غرابة ومن شذوذ . فالله لم يَصْطفِ خِلْقا لاستخلافهم في الأرض ثم يكرههم . فمن يحب الله حقا ، يحب كلَّ ما خلق . ومن يحب جماعته ، يحب الاخرين شركاءه في المحنة . فالاختلاف والتنوع على مدارج الايمان ، هو الفطرة الأولية في خلق الناس . بعيدا عن الاسباب والخلفيات لما نحن فيه من اختلاف وتنوع ، من الضروري التأكيد على انه تنوع لا يفرقنا ، ولا يبعث الريبة فينا ولا الشك ولا الخوف من بعض .
حين ندعو إلى الاصلاح والتغيير ، علينا أن نبدأ بثقافة الانغلاق التي تكرست في نفوس البعض . ففي المجتمع التعددي الديمقراطي الذي ننشد ، لا مكان لثقافة الاتهام ، ولا للتكفير أو للنبذ. فما هو موحد فطرة بين الناس ، أعم وأهم مما هو متفاوت ظرفيا بينهم ، وأن القيمة الانسانية في جميع الناس متساوية ، وأن التفاوت بينهم يكون بتلك القيم المكتسبة بجهد شخصي ، وأن كل تعامل بين الناس يجب ان يكون بميزان العدالة . فسنة الله قسطاس مستقيم ، لا تُحابي أحدا ولا تجافي أحداً .
بما أن هدف الدعاء رفع البلاء وتحقيق النماء ، دعونا ندعو بِنِيَّة شُمولية . فالوطن السويُّ يحتضن كلَّ أهله ، ويؤمن لهم كلَّ أسباب الحياة الكريمة المستدامة ، في حالة من التعاون المتجه نحو الانصهار . الابتلاء عدو يحاصرنا جميعا ، علينا التعامل مع عواقبه متعاونين ، تماما كما نتعامل مع مسبباته .
أعلم صعوبة العيش في واقع ، بعض ناسه صمٌّ بُكمٌ عُميٌ . لا يَصدَعون لحقائقِ العلم ومكتشفاته ، ولا لمقتضيات الإيمان وتبعاته . على قلوبهم وعلى عقولهم أقفال صدئة ، لن ينفع معها زرعُ سبعُ سنينا من الحب .
أيها الناس ، ألأدعية سلاحٌ ، والسلاحُ بِضاربه لا بحده . فمتى كان الدعاء صالحا وبلا آفة به ، يحصل التأثير وتتحقق المنفعة إن شاء الله . لا نعرف مالذي يختبئ لنا خلف المنعطف ، لكن من يعرف الله منا ، يتسع عليه كلُّ ضيق ، ويعرف أنَّ ثمة شمس ستشرق كلَّ يوم . أنَّى تُولُّوا وجوهَكم ، ثمة وجه الله . قِفوا بين يديه ، أقبلوا عليه بكل جوارحكم . فسيعامِلُكُم بالاحسان لا بالميزان ، وبفضله لا بعدله .
أما أنتم ايها العنصريون ، فلكُم دينكم إدعوا بما شئتم ، حتى تتقطع منكم الاحبال الصوتية . أما نحن فلنا ديننا ، فلن ندع مثلكم . سنعمل على تكثير الأوعية الشرعية الوسطية الفعالة ، لاستيعاب قِيمَةِ النِّديَّةِ السويَّةِ الكاملة بين الناس ، وحماية تفريعاتها ، وحسن تنزيلها على الواقع . فالعصر الذي نعيش ، هو عصر ترسيخ التعارف والتفاهم ، وليس عصر العزلة والعنصرة ونفي الاخر .

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى