معيقات نمو مفهوم المواطنة في التجربة العربية
د. ماجد عوض العبلي
لقد أثرت في تطور ملامح مفهوم المواطنة الجديدة في التجربة التاريخية العربية عوامل خارجية وعوامل داخلية:
أولا: العوامل الخارجية:
1-تأثير العولمة: تسعى العولمة من خلال استراتيجيتيها: التشييئ Reification (تحويل الناس إلى أشياء، وربما سلع) والمدينية Urbanization (جذب سكان الريف للإقامة في المدن لزيادة عدد المستهلكين، وهجر الريف والابتعاد عن الإنتاج الزراعي خاصة)- تسعى للتوسع في كل دول العالم، ودمجها في إطار النظام الاقتصادي والثقافي والاجتماعي الليبرالي المعولم، ما يعني إزالة كل العوائق أمام التجارة بمفهومها الواسع، حيث تعد القوميات في دول العالم الثالث إحدى العوائق أمام مدّ العولمة، لذا فإن العولمة تعمل على إضعاف الروابط القومية وتشجع على المزيد من التجزئة والتفتيت، باعتبار هاتين الآليتين حققتا نجاحات باهرة للمؤسسات الكبرى التي تتحكم بدفة العولمة وتوجهها لتحقيق أهدافها في الهيمنة والاستلاب. وإذا كانت الدول العربية قد تم تأسيسها بهدف تقسيم العالم العربي بفعل قوى العولمة بصورتها الاستعمارية في النصف الأول من القرن العشرين، فإن العولمة بشكلها المعاصر كرست الفوارق والاختلافات بين الأقطار العربية من خلال دمجها فرادى في النظام الرأسمالي العالمي المعاصر، فازدادت روابط كل دولة عربية مع العالم الخارجي قوة وكثافة على حساب الروابط العربية-العربية الضعيفة أصلا، ما أدى إلى فك معظم الالتزامات المتبادلة بين الدول العربية على أساس قومي. وهذا أدى إلى إضعاف كل دولة عربية على حدة. وإن إضعاف سلطة الدولة لصالح العولمة أدى إلى استيقاظ أطر الانتماء السابقة على الدولة، مثل القبيلة والطائفة وغيرها، ودفع بها جميعا للتقاتل وتمزيق الهوية الثقافية الوطنية، وكل ذلك ساهم في إعاقة نمو مفهوم المواطنة في الدولة العربية.
2-تأثير مصالح الولايات المتحدة الأمريكية في المنطقة العربية: حيث تعد المنطقة العربية مجالا حيويا للمصالح القومية الأمريكية، حيث الموقع الاستراتيجي والموارد الرخيصة. وضمان هذه المصالح يقتضي استمرار التجزئة والتفتيت والإضعاف لتسهل السيطرة، حيث مارست سياسة الاحتواء لدول المنطقة القوية مثل العراق (سابقا)، وقبل ذلك أخرجت مصر من الصف العربي من خلال معاهدة السلام مع “إسرائيل”، ثم قامت وحلفاؤها الأوروبيون بمقاطعة سوريا اقتصاديا ثم السودان ثم ليبيا. واستمرار المصالح الأمريكية في المنطقة يتطلب عزل الشعوب العربية عن المشاركة في صنع القرار، لذا فقد ساندت الولايات المتحدة الامريكية-ولا تزال-النظم الحاكمة القمعية لعزل الشعوب، ثم أمعنت في ذلك حين دفعت بمشروعها (الفوضى الخلاقة) في المنطقة العربية، والتي أبرز أبطالها (القبيلة والطائفة وبرميل النفط)، ما حال دون نمو وتبلور مفهوم للمواطنة في الدولة العربية.
3-تأثير مصالح “إسرائيل” في المنطقة العربية: حيث إن التجزئة والتفتيت والانتماءات لهويات فرعية مختلفة ومتصارعة (عرقية كالأكراد، وطائفية كالشيعة والسنة، وقبلية) تجعل المنطقة متنوعة بدل أن تكون ذات طابع عربي واحد، ومتوترة بدل أن تكون مستقرة، ما يمنح إسرائيل شرعية في وجودها بالمنطقة باعتبارها إحدى هذه الكيانات المتنوعة، وتسويق التوتر مع الشعب الفلسطيني على أنه جزء من التوتر في المنطقة العربية سببه العرب الفلسطينيون. وهذا الصراع الداخلي بين المكونات العربية يعد عائقا كبيرا في مسيرة نمو وتطور وتبلور مفهوم المواطنة العربي. فضلا على أن هذه الصراعات (تضعف الأطراف العربية، بقدر ما تستفيد منها إسرائيل) لا سيما في أعقاب الثورات العربية.
ثانيا: العوامل الداخلية:
1-عدم أصالة مفهوم المواطنة في التجربة التاريخية العربية: ففي حين عُرف المفهوم وتبلور منذ القدم لدى اليونان، فإنه لم يكن له وجود في التجربة التاريخية العربية، وخاصة أن الأمة العربية لم تعرف شكل الدولة الديمقراطية التي تعد الحاضنة الأساسية لنمو وتبلور مفهوم المواطنة، ولم يصبح المفهوم متداولا في الوعي العام العربي بصورته البسيطة التي تمثل الانتماء للأمة العربية إلا منذ أواخر عهد الدولة العثمانية، وذلك كردة فعل قومية على السياسات القومية التركية العنصرية التي مارسها حزب الاتحاد والترقي القومي التركي ضد الأعراق غير التركية داخل الدولة العثمانية حين تولى مقاليد الحكم، فأسس السياسيون العرب أحزابا قومية كمعادل موضوعي لحزب الاتحاد والترقي القومي التركي الحاكم. وهكذا بدأ العرب في مسيرة تأسيس مفهوم للمواطنة خاص بهم لأول مرة في التاريخ.
2-غياب مؤسسات المجتمع المدني في الدولة الإسلامية والعربية: فمنذ تأسيس الدولة الأموية، حيث ساد الحكم المطلق، الذي لا يقبل وجود فاعلين آخرين غيره في إطار الدولة وحتى الآن، فقد كانت هذه البيئة غير قابلة لنمو مؤسسات مجتمع مدني مستقلة، حيث مؤسسات المجتمع المدني المستقلة لا تنشأ ولا تتطور إلا في مجتمع ديمقراطي يقوم على المشاركة والمساواة والعدل واحترام حقوق الإنسان. وحين تدخل العالم الغربي في العقود الأخيرة لتدشين المجتمع المدني العربي وفقا لرؤية أن نشاطا قويا يقوده المجتمع المدني قد يؤدي إلى تحول نحو النظم الديمقراطية، فإن توسع المجتمع المدني بدل أن يضعف الحكم الاستبدادي موضوعيا، فإنه زاد من سيطرته بفعل الرقابة؛ حيث استطاعت الدولة العربية (تحويل مؤسسات المجتمع المدني-التعليمية والثقافية والدينية-لتصبح مجرد امتداد لأجهزة الدولة).
3-غياب الديمقراطية: فقد ساد الحكم الملكي المطلق-بشكل أو بآخر-في الدولة الإسلامية والعربية الحديثة، حيث الرؤية الواحدة التي لا تقبل النقد أو المعارضة، ما جعل المعارضة تبدو من كبائر المحرمات، حيث تمت ملاحقة المعارضين والتنكيل بهم. ويفسر البعض هذا الأمر بوجود تناقض بين الثقافة العربية الإسلامية وقيم الديمقراطية؛ ما يعني أن على الأمة أن تجتهد لدحض هذا الاتهام من خلال الانتقال إلى الديمقراطية ومبادئ المواطنة، وهذا تحدٍّ تاريخي مصيري لا بد من مواجهته وعدم تأجيله أو الهروب منه للأمام أو الخلف.
4-مصالح النخب العربية الحاكمة: حيث احتكرت هذه النخب موارد الدولة وتمتعت بها على حساب الشعب وعلى حساب مصالح الأمة، فتمخض عن هذا الاحتكار ثلاث نتائج خطيرة هي:
4-1-تكونت لدى هذه النخب إرادة سياسية نفعية ضد أي تضامن عربي سياسي حقيقي تجاه الوحدة العربية، أو اقتصادي تجاه التكامل الاقتصادي العربي، وذلك بعكس الإرادة الشعبية العامة؛ ما أضعف كل دولة على حدةٍ سياسيا واستراتيجيا تجاه المجتمع الدولي من ناحية، وأضعفها وكشفها اقتصاديا لصالح العالم الخارجي من ناحية أخرى، الأمر الذي انعكس سلبا على المواطن العربي استلابا وفقرا، ما ساهم في تشويه العلاقة بين المواطن والدولة، فأعاق بالنتيجة نمو مفهوم المواطنة.
4-2-تكونت لدى هذه النخب إرادة سياسية نفعية ضد مبدأ مشاركة الناس لها في السلطة والثروة. لذا فقد استغلت هذه النخب السلطة للحيلولة دون نشوء مؤسسات مجتمع مدني كفؤة وفاعلة، ودون تطور الحياة السياسية، ودون انصهار مكونات الشعب في الدولة العربية في بوتقة مجتمع وطني متجانس وموحد؛ ما ساهم في إعاقة نمو مفهوم للمواطنة.
4-3-تسبب ذلك الاحتكار للسلطة والثروة من قبل الأقلية باستقطاب اجتماعي حاد، حيث انقسم المجتمع إلى طبقتين: الأولى أقلية ثرية جدا، والثانية أكثرية فقيرة جدا، وتلاشت الطبقة الوسطى من خلال ذوبانها في الطبقة الفقيرة، ما جعل ويجعل المجتمع مهيأ للانفجار في أية لحظة، وخاصة أن الأعباء والضغوطات تتزايد باستمرار على الطبقة الفقيرة، بفعل السياسات الاقتصادية المنسجمة مع شروط العولمة ومبادئ الاقتصاد السياسي الدولي المعولمة، التي تدفع بالبلدان العربية نحو المزيد من الانكشاف الاقتصادي للخارج، والانزلاق أكثر وأكثر بدرك الديون الخارجية التي تثقل كاهل الأوطان وتغتال مستقبل الأجيال القادمة، وتصادر حقهم في المواطنة سلفا.
وقد حاولت النظم العربية تجميل مظهرها الخارجي لتحقيق استقرارها، بوساطة بناء مفهوم للمواطنة الجديدة يحاكي النموذج الغربي من خلال خلق الانتماء للدولة-الأمة، غير أن هذا المفهوم ظل منقوصا وسطحيا ولفظيا تتداوله أجهزة الدولة الرسمية وأدواتها المباشرة وغير المباشرة على المستوى الرسمي، في حين ظلت فئات الشعب تعاني التهميش السياسي والاقتصادي والثقافي والاجتماعي، حيث لم تعمل الدولة على تمكين الشعب سياسيا واقتصاديا واجتماعيا وثقافيا من خلال مشاريع تنموية شاملة، ولم تستخدم الثروة النفطية الهائلة لإنشاء مجتمع إنتاجي مكتفٍ ذاتيا؛ ما أدى إلى تحلل الفرد من واجباته لأنه لا يتمتع بالحد الأدنى من حقوقه؛ ولذا فهو غير مقتنع بالواجبات التي تفرضها حكومات لا تمثله؛ كونه لم يشارك في تشكيلها.
وهكذا سيطرت على الفرد العربي مشاعر الاغتراب، بدل أن يتمتع بمواطنته في الدولة التي تسمى وطنه؛ وبات من المتعارف عليه لدى الشعوب العربية، أن النخب العربية الحاكمة مرتبطة مصلحيا مع الغرب، ما يجعل دولهم مستلبة للخارج، الذي من مصلحته بقاء الشعوب العربية معزولة عن عملية صنع القرار، ما يعني أن الدولة العربية عموما غير مؤهلة لأن تهيئ البيئة الوطنية لبناء مفهوم المواطنة؛ ما يجعل الربيع العربي نتيجة منطقية لكل ذلك.