مصطلحات إسلامية : الاعتدال

#مصطلحات #إسلامية : #الاعتدال
بقلم: د. هاشم غرايبه
#التطرف في فهم منهج أو تطبيقه أمر منبوذ، لأنه يؤدي الى #المغالاة أو التشدد، والمغالاة تفسد الغاية، والتشدد يؤدي الى التنفير من المنهج.
لذا فالنتيجة المباشرة إفساد المنهج وإذهاب نفعه، تماما كما تسخين الحليب لأجل منع تكاثر الجراثيم فيه، فهو يحافظ عليه إن كان لدرجة 70 مئويه، إن قل عن ذلك لا يؤدي الغرض، وإن زاد يفسد فلا يعود صالحا للاستعمال.
نقيض التطرف هو التهاون والتفريط وهو لا يقل ضررا عن التطرف، فلذلك كان الاعتدال مبطلا لضرر هذا وذاك، ويعني الأخذ بالأمر كما يستحق، من غير إفراط ولا تفريط.
لهذا كان الاعتدال مصطلحا اسلاميا بحتا، وجزءاً من مواصفات مفهوم الوسطية الذي وصف الله به أمة المسلمين “وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا” [البقرة:143].
من المهم توضيح الحدود الفاصلة بين المعتدل والمتطرف الى أحد الطرفين: تشددا أو تهاونا، لأن الاعتدال ليس خطا حادا ضيقا، بل هو مساحة واسعة، يتحرك فيها المؤمن بحسب امكانياته وقدراته على ضبط الشهوات والأهواء والمصالح اقترابا أو ابتعاد عن الطرفين المهلكين.
هذه المساحة صنعتها التشريعات التي راعت واقعية التطبيق، ولم تكلف النفوس فوق ما تطيق، وقد أوضح ذلك كتاب الله بشكل بيّن.
فالحالة المثلى للمؤمن أن يكون في تمام التقوى، ويتمثل ذلك في قوله تعالى: “فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ” [هود:112]، إلا أننا نلاحظ أن الخطاب موجه الى النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة الأجلاء، وليست لعموم المؤمنين، لأن هؤلاء النخبة أفعالهم قدوة، وهم المثل الأعلى لكافة المسلمين في قادم العصور.
أما الحد الأدنى من التقوى المقبول من المؤمن، فهو المبين في قوله تعالى: “فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ” [التغابن:16]، وهذه الآية ليست ناسخة للآية :”يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ” [آل عمران:102]، كما يعتقد الذين يؤمنون بالناسخ والمنسوخ، فكلا الآيتين لها موضع مختلف، ولها موجبات وجودها، لأنهما تمثلان المساحة الواسعة بين الحد الأعلى والحد الأدنى من التقوى، الذي هو أساس متطلبات الإيمان.
كما يبينها الله تعالى في باب المنهي عنه والمباح، في قوله: “إِن تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُم مُّدْخَلًا كَرِيمًا” [النساء:31]، فلم يقل (كل ما تنهون عنه)، بل خص الكبائر فقط، وليس كل السيئات، وأضاف وعدا مطمئنا لمن يفلح في تجنب الكبائر بأن يكفّر عنه السيئات التي اقترفها، وتكفير السيئات يعني أبعد من مجرد غفرانها، فهو نقلها الى الكفة المقابلة، أي التي تثقل الميزان، مما ينتج الفوز بالمدخل الكريم (الجنة).
لو تمعنا في كل المتطلبات لاستحقاق التقوى، لوجدناها كلها في باب الممكن تحصيله للمرء العادي، فلا يحتاج الى قدرات خاصة، ولا الى تكلف أحمال ثقيلة: “يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْر” [البقرة:185].
لذلك رأينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يصرف وقتا مع الذين يبالغون في العبادات كمّاً، ويتمسكون بحذافير الإجراءات أداءً، بهدف إعادتهم الى الاعتدال، أكثر بكثير من المُقلّين فيها بقصد زيادتها ورفع جودة أدائها.
فقد حدد معالم الاعتدال بقوله صلى الله عليه وسلم: “الدين يسر ولا يشاد الدين أحد إلا غلبه”، ورأيناه يحذر المتنطعين للدين من مغبة ما يفعلون، وبصيغة إنذارية، هي أقوى بكثير من ذمه للمتهاونين والمتقاعسين: “هلك المتنطعون”، حيث كررها ثلاثا.
كما رأيناه يلوم معاذا، رغم أنه عالم فقيه، وعابد محسن، وذلك عندما شكا الناس له طول صلاته حين كان يؤمهم، وقرّعه قائلاً: “أفتّان أنت يا معاذ!؟”.
وتسقط ذرائع المتشددين تخوفا من ضياع الدين، عندما نراه صلى الله عليه وسلم، وهو يجيز كل التطبيقات لمناسك الحج في حجته الوحيدة (حجة الوداع)، فرغم أنه أدى المناسك أمامهم تعليما لهم، إلا أنه لم يتمسك بتطابق الأداء، بل أجاز ما أداه آخرون بصورة غير مطابقة، ولم يبطلها أو يطلب منهم إعادتها على الوجه الأمثل.
من كل ما سبق نلاحظ أن الدين عقيدة وأعمال، العقيدة يجب أن تكون سليمة لا انحراف فيها، وأما أفعال العبادة فمحكومة بنية التقوى ونوال رضا الخالق، لكن أداءها ليس كحد السيف، بل به متسع للتباين بين الحد الأدنى والأعلى.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى