مسرحية “إلا انت – القدس”

مسرحية “إلا انت – القدس”
د.رياض ياسين


رؤية خارجة عن المألوف تحكي قضية القدس بطريقة مختلفة وهي ثمرة تعاون بين مبدعتين أردنيتين الكاتبة سميحة خريس والمخرجة مجد القصص.عرضت على خشبة مسرح المركز الثقافي الملكي، وهذه التجربة تمثل أول عرض مسرحي يُنتَج في الأردن منذ بدأت الجائحة.

تحكي المسرحية قصة الأسرى في سجون الاحتلال الصهيوني البغيض، وتسلط الضوء على الأسرى ومعاناتهم من خلال تهريب النطفة لزوجاتهم خارج السجون، حيث ولد العشرات من الاطفال الفلسطينيين بهذه الطريقة ومازالوا بدون هوية.
عمل مسرحي موسيقي يمتّ الى فيزياء الجسد وهو أقرب الى الكوميديا السوداء، تدور احداثه في القدس التي تعرضت للاحتلال الصهيوني ومازالت تقاوم. تسجل المسرحية هدفا ثمينا في مرمى الاحتلال من خلال تقديم طفل المقاومة في مجابهة شيطان الاحتلال.
ما قدمته مجد القصص يقترب من الكوميديا السوداء ويضيف لنا روحا مفعمة بالأمل ويضيء فتيل النور في ظلام معاناتنا في ظل الاحتلال. وتقوم مقولة العمل على ثنائية الحُب والحرب التي يعصر معها الزيت الذي يتقطر من شجرة الزيتون فيضيء ليالي حلمنا بغد مشرق.
فريق عمل مميز ساهم في نجاح هذا العرض الذي ولد رغم ظروف كورونا والأجواء الاستثنائية التي تخيم على العالم. شارك بالتمثيل: أريج دبابنة- منذر خليل مصطفى – نبيل سمور – آني قرليان- نادين خوري – عدي طلال – عكا حمدان – ابراهيم يوسف عشا – محمد قطان – وقد ابدع وليد الهشيم في تأليف الجمل الموسيقية للعمل ونجح نضال جاموس في اكمال الرؤية الإخراجية.
نحن على موعد مع ملحمة سطرتها مخرجة معتقة بحب الوطن وأهله على امتداد رقعة معاناته وعمق جراحه. تنطلق مجد القصص من فكرة المقاومة والصمود وتعلن من خلال إلا أنت – القدس عصيانها على الانكسار وتفتش على
أدوات الإنتصار وترسل مع الامل رسالة أن الحب يولد من رحم المعاناة أيضا، ولا تحده حدود ولا تكبله قيود، وتذهب مجد بنا الى ترانيم القدود التي يجسدها فريق العمل باحتراف واقتدار هائلين تنسجم مع عظمة الإنسان العربي الفلسطيني في مواجهة كل اشكال الصلف والتعسف والطغيان التي يعيشها في ظل أعتى احتلال في ما يسمى عصر الحداثة والتطور وحقوق الإنسان.
الحب التي تعلنه مجد هوعنوان للبقاء والاستمرار، وتختار له في هذه المرة الأسرى الفلسطينيين في سجون الاحتلال حيث تحدي الحياة الماثل أمامهم وقيود السجان المانعة من الالتحام مع تراب الوطن ورائحة ارضه، ونصل مع مجد الى فكرة مفادها بالحب وحده نستطيع أن نصمد ونحيى خلف قضبان تدخل من خلال فجواتها نفحات الامل لشعب يتنفس حرية من ثقب باب حديدي ويرضى بقناعته التي ستوصله يوما الى مبتغاه، فالرسالة أننا وامام هذا الحشد الهائل من الهجوم والمؤامرات على شعبنا العربي الفلسطيني نعلن اننا مازلنا قادرين على ممارسة الحب في زمن الحرب فنحن على قيد الحياة والامل، ونرغب في البقاء والمضي قدما نحو نهايات المعركة رغم كل الخسارات والانكسارات.
خلال المشاهد الأولى يظهر فريق المسرح يغني ويعزف على حق شعب مظلوم سمفونية الخلود والبقاء على أرض الطهر والحق، يرفض الانتكاسات ويتحدى الانكسارات ، وابدعت مجد في صياغة الإيقاعات والأصوات والتصوير البصري الذي رافقه موسيقى تراقص الأرواح كما الأجساد، وهيبة المسرح تجلت هذه المرة في لغة فصحى جزلة لتعكس لوحات المسرحية وتليق بهيبة طرحها وفرادة القضية التي اختارتها المخرجة العبقرية.

سبع لوحات ذهبية مليئة بالدفء
الأولى: القدس محبة
رسمت مجد لوحاتها بريشة ذهبية افتتحتها برسم القدس على شكل قصيدة محبة مغناة مستوحاة من قصيدة للشاعر الكبير تميم البرغوثي (في القدس) حيث في القدس تعريف الجمال مثمن الأضلاع أزرق، فوقه قبة ذهبية…في القدس كل الممكنات وفيها كل المدائن. وقد انشد الفريق المسرحي تلك المغناة العظيمة بإحساس عال وتناغم يعكس انسجام وتآلف فريق العمل وصدقه.
الثانية: المواجهة
حوار أسيرين زوجين ينتهي الى اعلان التنافس عن التمسك بالآخر واعلان الحب هي تعرف نفسها انها امرأة ليست اغلى من زوجها واهلها الطيبيين وهو يصفها بأنها الأرض الطيبة التي تشرع صدرها تصدَ عن كرامة أمة. وهي تبادله الروح بالروح عندما تشعر بأنها تستمد صمودها من صموده…بعد أن يقع الزوج في الأسر تقف زوجته لتقول: “لا عليك فليس كل قيد يكبل الروح… لا عليك…فليس كل وجع يكسر المرء…من اوجاعنا نعلي أبراجنا، من حناء الأرض ودم الشهداء نعلي راياتنا،القيود في الأكف الحرة عزة… والاوجاع في النفوس الكريمة درب للفرح القادم…ياخذونك، فنصير كلنا أنت… وما في القدس إلا أنت.وتبدا قصة الحب التي لا تأبه بالقضبان ولا تبالي بما يفعل السجان.

الثالثة:الجنازة وتشييع الشهداء
تحفل بالتحدي والروح العالية وإعادة تعريف أرباب الكراهية والإيمان من الأبطال ومن كانوا في مرمى نيران الكراهية : “بكل جبروتكم لن تستطيعوا سرقة الحياة من قلب الحياة”. إنها وصفة ناجعة لتحدي الآلام والشفاء منها.
الرابعة: الزيارة
تتجسد الروح العالية الملتحمة مع الحق والإيمان بأن النصر آت لا محالة وأن القيود ستنكسر على صخرة الإيمان والصمود ، ويبث فينا الأسير روحا تتدفق من قلب نازف ليعلن: ما دامت المسيرة بخير ..فإننا أحراروراء المحابس…ما دامت الأيدي تسند بعضها فأكفنا طليقة. وكل غاصب الى زوال مهما طال ليله… وأن قضبان السجون لا تمنع النفوس الحرة من أن تطير …يخرج الجميع ما عدا الزوجة والأسير.

الخامسة: التوق الى الإنجاب
يصر الأسير والزوجة على استمرار الحياة، فهو يصرخ: نرسل لقاحاتنا عبر الهواء وهي تردّ نضمخ الفضاء بأشواقنا، ويعلن الجميع بصوت واحد: هل يقدر السجان على الإمساك بالشوق؟ يرجع الأسير مرة ثانية ليصر على ان الحلول حاضرة: لن نعدم حلا ذلك هواؤنا ،ترابنا قمحنا ماؤنا سيكون في صفنا لنستمر.
أي روح تسكن أبطالنا في فلسطين، أي حب يكتنز في قلوب شبابنا ومقاومينا حيث لا ينفع تخاذل وقنوط ويطغى الحب والرغبة في الموت واقفين امام كل رياح الطغيان العاتية وشذاذ الآفاق النائية.

الحب ذلك المأوى الحصين الذي نهرع إليه عندما تداهمنا الغارات وتطل علينا رؤوس العاديات، الحب قدرنا وليس حاجتنا فحسب ، نحن على قيد الحياة لطالما خلقنا من معاناتنا قصيدة جميلة للحب نغنيها حتى لو رافقنا فيها موسيقى الناي الحزين.
الهزائم تطال الصعيد الجسدي والمادي و كل ذلك يمكن ترميمه وعلاجه خلال عدة سنوات، ولكن الهزائم التي تطال الجانب النفسي والروحي لشعبنا العظيم لا يمكن ان تتم لطالم بقيت القدس عنوانا لمهوى قلوبنا وراية القبة السامقة هي أغلى أمانينا وطريق عبورنا الى سماء الحق والعدل.
مسرحية مجد تنتصر للحب، والمعنى الذي تقصده مجد هو أن تُفكّر بغيرك كما تفكر بنفسك دون شروط ومقدمات وحسابات. فأنت عندما تعلن انك مؤمن بغيرك تبعد عنك الانانية ،والإنجاب هو أن تفكر بوطنك فتقدم قربان دمك فدوة لوطنك وشعبك وتعلن من خلال طفلك ان المسيرة مستمرة، مسيرة الكفاح والنضال ضد الطغيان، وترسخ فكرة ان الحب هو وقود المعركة ومؤونة جنودها من المشاعر التي تخزنها في قلبك ليوم النفير العظيم.
الحب تمرد على كل الشروط والقواعد وأجبر الشعراء على كسر اناء الكلام وتجاوز المألوف وفضح المكتنز من المشاعر وخلجات النفس، وفكك اقفال الأرواح ،ففي الحب تسقط كل الفروض والفرضيات وتسطو على قلوبنا تضحية تجعلنا ننذر انفسنا طوعا لوطننا.
السادسة:تهريب النطفة
حيّا على الحياة
مشكاة الحياة
زيت ومصباح ومشكاة نور على نور يضيء عتمة الليل البهيم
يصر الأسير على تهريب النطفة إنها فلذة كبده وطفله الذي سيواصل نضاله رغم قيود السجان المُحْكمة. فيذهب الأسير وزوجته الى ذلك الغد صانعين معجزتهم. فهم يعلنوا أنهم ابناء الغد ينبتون الشجرة من بذرة …الأسير: لتنبت البذرة شجرا…ولتطلع من ظلام الكهف الى فضاء منير…ويحث زوجته على أن تكون تلك الزهرة التي تنبت منها الغابة…وتتم عملية تهريب النطفة بنجاح ويولد الأمل والزيتونة المباركة تحمل ثمرا ثرّا والزيت ينقط منه … وتشتعل الزغاريد فرحا وابتهاجا …الخلاصة نفحة من هوا فلسطين باحت بالسر ،وعلمت العالم كيف نتناسل.. مسيح وراه مسيح طاحت الخيل ترقص في ميدانا العريس
يعلنون أنهم باقون ما بقي الزعتر والزيتون صامدون لا ينكسرون وإن داهمت شجرتهم كل رياح العالم العاتية.
السابعة: اعادة كتابة التاريخ
المنتصر يكتب التاريخ
لسان حال زوجة الاسير: سجل يا كاتب التاريخ لحظة أضاء الكون ببذرة من زيتنا… من صلبنا…لحظة أعدنا صياغة ما كان وما هو كائن وما سيكون.. سجل يا تاريخ أننا لم نكن عابرين هنا…ولن نكون… ولكننا مشكاة الكون وقلبه ، وما سوانا عابر
أيها المارون بين الكلمات العابرة
احملوا أسماءكم وانصرفوا
واسحبوا ساعاتكم من وقتنا، و انصرفوا
وخذوا ما شئتم من زرقة البحر و رمل الذاكرة
و خذوا ما شئتم من صور، كي تعرفوا
انكم لن تعرفوا
كيف يبني حجر من أرضنا سقف السماء

تتحدى مجد القصص كل اشكال الاستثناء وترفع راية الحب عالية في سماء الأمل وتجدد الأماني في اننا باقون رغم كل اشكال الصلف والدمار والخراب الذي طالنا من الاحتلال البغيض .
رسمت المخرجة مع فريقها لوحات بديعة لفيزيائية الجسد ترافقت مع اختيارات ذكية لمقاطع شعرية لقصيدة تميم البرغوثي الشهيرة (في القدس) ومقاطع مغناة بأصوات شجية مليئة بالدفء والأمل مرة بشكل فردي ومرة بشكل جماعي..
تسود اجواء المسرحية رسائل مفعمة بالمقاومة الذكية بكافة أشكالها وتظهر من خلال الحوارات والحركات الجسدية التي تعبر عن تحدي الاحتلال وسياساته الظالمة الماكرة.

تنقلت مجد بين المكان العتيد المجيد وهو القدس والزمان البعيد القريب الماضي والحاضر والمستقبل، لترسخ عظمة المكان وجذوره وتمزجه بالإنسان الجاثم على الأرض الراسخ رسوخ شجرة الزيتون على أرض فلسطين، فكل زيتونة ستنجب طفلا ومحال ان يختفي الزيتون. فالمسرح الذي تريده مجد يشتبك مع مقومات البقاء ويعيد انتاج الروح المقاومة لكل اشكال الظلم والتعدي والطغيان،ويصل بنا الى مستقبل نجني من خلاله ثمر التضحية والكفاح.
.
rhyasen@hotmail.com

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى