مدائن الرمل المدفونة

أحمد مزيد أبو ردن – تقرأ رواية جهاد جبارة «رؤيا صحراوية» روح الصفويين وخوفهم الغريزي من الطبيعة ومن ذلك الهاجس المؤرق المتيقظ دائماً، والخوف من الغيب في البيداء الرملية التي تتشابك عناصرها وتتآلف أجزاؤها لتشكل بنية واحدة متكاملة تفيض أيامها بالحزن والفرح وتشتعل سماؤها بالظمأ الشديد وبالهجير المتوقد الذي يختبئ منه كل كائن حي.
كانت غريزة الحذر والترقب حاضرة لا تغيب، لأن القبائل تنجب العشاق والفرسان الذين يدافعون عن وجودها من تهديد الأعداء والضواري الكاسرة.. لقد اقتسموا متاهة الرمل مع أصدقائهم وأعدائهم، والكل يريد أن يبقى يقاتل عن وجوده ورزقه واستقراره حتى الرمق الأخير من الحياة.
تنطلق الرواية الصادرة بدعم من وزارة الثقافة، من الخلفيات الصامتة التي أعلنت عن بوحها الخفي المتجلي بما ترجمه قراء النقوش من حديث الرمل والبيداء والشموس الساطعة التي ترسم لوحات سرابية في الأفق مزروعة بالوهم والظمأ واللامعقول.. لقد دونوا دفاترهم الحجرية وأسرارهم وعشقهم الجارف للحرية وسط المتابعات المترامية، وهم فيها أهدى من القطا يعرفون كل نبتة ويميزون صوت كل حيوان ويعرفون المعالم المتوارية في الليل والنهار.
لقد انطلقت الرواية من هذه الأبعاد التي ظلت مجهولة وغير معروفة حتى كانت شهرة المعرفة في امتصاص مغاليق الحجب والغيب والتعرف على أفكار أصحاب المكان ومشاعرهم التي نثروها فوق الحجارة البازلتية السوداء التي قذفتها الحرات وثورات البراكين ليكتبوا عليها أسماء القبائل والبشر، وتفاصيل النذور والولادة والموت والحياة والخوف من المجهول والقادم من رحم الغيب.
السرد في الرواية مترابط، والأحداث متشابكة، ما خلق حالة من المتعة اللاشعورية التي تحرك حاسة التذوق والشم والتخيل في هذه المساحة من الأوراق التي تتحدث عن ذلك العالم المجهول من طبيعة الإنسان قبل آلاف السنين، وكيف ظل هو الإنسان في حنينه الغريزي لنصفه الآخر الجميل وتجسيده كلَّ معاني البطولة وقيم الإيثار والشجاعة التي عز نظيرها، لأن الصحراء لا تحتفي بالجبناء وتفتح ذراعيها الرحبتين للرجال الشجعان الذين كان نموذجهم البطل الشهم «ماسك» الذي لوّعه الحب والرحيل في رضا الحبيبة.
أسلوب الكتابة كان عذباً سلساً قريباً من القلب بحيث يعطي القارئ مدى واسعاً ليشارك بنفسه في الأحداث التي تقع ولا يشعر بالحواجز التي تقف بينه وبين النص إذا كان النص صعباً ومعقداً وغامضاً.. لقد برزت الرواية بجمالياتها العذبة ووتيرة أحداثها المتعالية لتقدم ما حدث بشكل يرضي مزاج القارئ..
هناك خلفيات جديدة لمسرح الرواية واستعارة الكاتب من المسكوت عنه والمجهول وغير المعروف من تاريخ الدفاتر الحجرية التي نقشها الصفويون والثموديون والنبطيون ذات زمن بعيد يمتد إلى ثلاثة آلاف عام إلى الوراء.. لقد ذابوا من الحياة وصاروا تراباً، ولكن ما حدث لهم هناك ظل موجوداً وخالداً في دفاترهم وحروف نقوشهم المتقطعة.
ولم يكن جهاد جبارة هو الوحيد الذي قرأ النقوش.. هنالك غيره الكثير، لكنه تفرد عنهم بكتابة هذا العمل الإبداعي واستلهم روح المكان وذاب ذوباناً عميقاً في جماليات فضائه الرحب.
يعرف القارئ من الرواية أشياء لم يكن يعرفها، ويطأ أرضاً لم تطأها قدماه من قبل.. كل ذلك بالكلمات المعبّرة، وبالأحداث المترابطة مثل حبات الخرز المنتظمة في نسق واحد يجمع بينها الجمال والحسن البديع.
نحن أمام عمل انبثق من تلك الأرض التي مثلها جبارة خير تمثيل، بتفرد العاشق صغير الجسم شجاع القلب (ماسك) الذي جسّد نموذجاً لإحدى القبائل العربية التي عاشت وماتت ولم تغادر ديارها.
تثير الرواية غبار الأسئلة، لأنها لم تكن ترجمة لأسماء الرجال الذين حفروا النقوش، بل هي عالم متكامل امتزج به اللون والضوء والصوت والبصر والسمع والتذوق.. هذه العناصر هي التي تصل بالعمل الإبداعيإالى غايته. وجبارة هنا لم يكن شاعراً ولم يستخدم أسلوباً شعرياً في الرواية، وإن ظهرت أحياناً بعض من الصور الشعرية.. لقد كانت تلك النثرية الخصبة عالية الإيقاع وتستفز القارئ ليواصل قراءة العمل حتى نهايته.
يتشرب القارئ من الرواية روحها الصفوية، ويشم رائحة المطر الغزيرة فوق رملها المتلبد، ويسمع الضحكات المجنونة للضباع الجائعة في الليلة المعتمة المظلمة التي جاء وصفها في الرواية، ويسمع صوت الذئبة التي تبحث عن ذئب رفيق لها ليقضيا الليل معاً، فالوحدة قاتلة والرفيق هو المطلوب في مثل هذا الجو العاصف الممطر شديد البرودة.
لقد أخرج الكاتب أحداث روايته بذكاء وبراعة من دفاتر الحجر التي حفلت بالمعرفة والنقوش التي تذكّر بوجود شعوب فوق هذه الأرض منذ ذلك الزمن السحيق، فكانت الرواية عملاً إبداعياً تألقت فيه روح الكاتب وهو يبدع سمفونية الحجر والنقوش والدهشة العارمة المستفيقة، التي تتسلل عميقاً في الوجدان المرهف الظامئ لقطرات من رحيق الإلهام الذي يغسل عذاباته وآلامه ومشاعره.
وقد استفاد الكاتب من رحلاته الصحراوية وهو يجمع مادة كتابه «صهيل الصحراء» الذي يكشف من خلاله كيف قرأ بعيونه ومشاعره ما حدث هناك بالضبط فوق الدفاتر الثقافية الإبداعية المنقوشة فوق الصخر البازلتي، وعلى الحجارة السوداء القاسية لأجدادنا الصفويين الذين عاشوا في نطاق الإمكانيات التي كانت متاحة لهم.
البشر الذين تحدثت عنهم الراوية أعطتهم حقهم الغائب، فبعيداً عما كتبوه هم بأنفسهم وبعباراتهم القليل،ة تأتي هذه الرواية لتقول من عالمهم كل شيء، وتقدم التفاصيل اليومية لتواجدهم فوق مدائن الرمل المجنونة التي ألفوها وتآلفوا معها وأحبوها حباً جنونياً ملك عليهم منافذ وعيهم، رغم قسوتها وخطورتها، فلم يفكروا بالرحيل إلا من طرف إلى طرف ضمن حدودها وتفاصيلها وفتنتها التي تشربتها أرواحهم وقلوبهم وحياتهم.
وهكذا، في متعة السرد والتخيل والدهشة، انبثق هذا العمل الجميل من روح عاشقة وقلب محب لذلك التراث المغلف بالرهبة والغموض، وقدّم محاولة رائعة ونجح فيها نجاحاً مذهلاً إذا ما قُرئ بفهم عميق لحياة أولئك البشر الذين تشبثوا بالأرض مثل السراب النهاري الذي وإن يكن وهماً وانعكاساً لخداع بصري، إلا أنه يبرز بوضوح ويعلن عن وجوده وحضوره ويؤدي دوره على أحسن وجه. لذا فإنهم لم يحتكروا الصحراء، بل تركوها تجود عليهم وعلى غيرهم، فتجاوروا مع الذئاب والضباع والأفاعي والجرابيع والوعول والنسور والطيور.
وكان لهم جانبهم الأسطوري وإيمانهم بالنذور والسحر والميثولوجيا والحكايات الخرافية وأحاديث الجن، وهذا ما أفصح عنه الكاهن «عوذ» في حديثه عن ليلة المغارة التي بات فيها الراوي مع صديقه «ماسك»، وشاهدا فيها العجائب وما يشيب له رأس الغلام شديد السواد.
تتحدث الرواية عن لحظات من التيه العميق، حين تضيع قبيلة بكل بشرها وإبلها وكلابها ونسائها ورجالها وأطفالها، كأنما انشقت الأرض وابتلعتها، أو أنها تبخرت مع الغيوم المبتلة بالمطر التي تتقادح بروقها الوامضة.
وكان الراوي الذي لم نعرف اسمه ضائعاً يفتش عن قبيلته يغسل بالدموع أوجاع قلبه، ويبكي الحبيبة التي ضاعت مع أهلها ولا يدري عنها شيئاً، ثم التقى مع الفارس الملهم الدافق بالرقة والشاعرية «ماسك»، وهو قناع الصحراء الذي تراه في كل اتجاه وفي كل طريق مغسولة بالرمل والماء، يفضي إلى حبيبة القلب التي رحل بعيداً عنها، لتجسد روح الإلهام في وجدانه ويظل يهتف باسمها الجميل «عذبة» تميمة له من مفاجآت الدروب ومن وعثاء الرحيل وقسوة الطبيعة وضراوة الرفاق الذين يأكلون كل شيء يتحرك.
لقد كانت الصحراء ذات المزاج الأنثوي المتقلب تماماً مثل طبائع النساء، تشتعل حرارة ولهيباً حاراً في النهار، وتصبح قارسة شديدة البرودة في الليل مع عروضها الفاتنة لمشهد النجوم اللامعة الليلي الذي ينعكس ويتمازج مع هذا الطقس الاحتفالي الذي يتجسد في الظلام الدامس.. ذلك اللون حالك السواد الذي كان له حضور طاغٍ في أجزاء من هذه الرواية التي اختلطت فيها الصور البصرية مع اللون ورائحة النبات والرمل وموسيقى الأصوات الليلية التي تثير شتى الانفعالات.
لقد ظهرت الصحراء بأشواكها وثُميلات الماء التي تنبع من تحت الرمل وغدرانها التي يردها كل الظامئين بعد أن فاض الماء غزيراً وتحولت الأودية الجافة إلى سيول صوتها صاخب هدّار تجرف في طريقها كل شيء، وتنفجر بها الأشواق وينعتق القلب من خلجاته ويبوح بها اللسان بما يتفاعل في العقل والروح وفي الوجدان المرهف.
وظهرت المرأة جلية واضحة بما نطق الرجال عن ذلك العالم الناعم المترف الملهم، لأن الحديث العذب الحلو عن النساء الحبيبات الغائبات يخفّف وطأة الوجد المشبوب ويخلق الدوافع الهائلة للمغامرة ولضروب من الشجاعة وإبراز المواهب التي تحرك دوافعها المرأة الحبيبة، النصف الآخر لهذا الرجل الذي يتنقل فوق بحر الرمال الواسع وهو يغني لعيني الحبيبة الجميلتين المكحولتين.
رواية «رؤيا صحراوية» جديرة بالاهتمام لمناخاتها المختلفة ولطبيعة الأرض التي تتحرك فوقها الأحداث المغسولة برؤى الرمل والماء والبروق، وذلك المزيج الغريب بين الحيوان والإنسان، فالكل يبحث عن ذاته وله دور يقوم به بصمت في المدائن مترامية الأطراف المكتظة حتى الجواف بالرمل، بل إن رائحة الرمل تكاد تكون مشمومة في تفاصيل الرواية الرملية المسكونة برؤيا الصحراء وبالهواجس العالقة بالحنين واللهفة للحظات من الشوق والاستقرار والهدوء العميق المتأمل.
قدّم الكاتب روايته ثم غاب بعيداً، ليترك للقارئ فرصة فهمها وتفكيك نصها والتغلغل في أعماقها وهو يبحث ويلقي ظلال روحه على أنفاسها المعطرة بالخزامى والرمل وبروق الغيم اللامعة البعيدة التي ستفيض بالماء على روح الرواية. واتسمت لغتها السردية بالجذب الجميل الذي يطلق كل ملكات التذوق وحواس التخيل لمعرفة الأحداث وتوقع المفاجآت في الصفحات اللاحقة.
لقد شاركت الطبيعة بكل طقوسها ورهبتها وتجليات خوفها وغموضها وبرزت في الرواية من خلال رفاق الصحراء الذين يتقاسمون الطعام والحياة فيها، والذين يختبئون في النهار وينتشرون بشكل عنيف وقاتل مرعب في الليل البهيم المدلهمّ.
كان ثمة أجراس بعيدة الصدى عميقة التأثير تدندن في أجواء المكان والنص النثري.. إنها أرواح الصفويين التي كانت تجوس في الليالي التي يغيب فيها القمر وينتشر الظلام العميق، وأصوات الضباع الجائعة الكريهة المخيفة التي تبحث عن جيفة تمزق عظامها شر ممزق أو عن جثة دُفنت منذ أيام قليلة، وهي تصدر أصواتاً أشبه بالهمهمات والضحكات المرعبة. وهناك أصوات الذئاب التي تعوي من الجوع والبرد والحنين إلى النصف الآخر الغائب.
هذا المشهد كتبه جهاد جبارة من اللاوعي الشعوري لديه ومن عقله الباطني، لأنه ربما سمع أصوات الضباع وموسيقى حبات الرمل المتساقطة في الليل من فوق الكثبان، وهو ينتقل في أرجاء أرض الصفويين في البادية والصحراء الشمالية، ليجمع مادة كتابه «صهيل الصحراء» ذات الأجواء الاحتفالية السوريالية المليئة بالحركة والعذوبة والسحر..
لقد عمل جبارة على كتابة هذا المشهد بذكاء وبراعة وأخفى اسم الراوي الذي رفض أن يبوح لصديقه «ماسك» باسم حبيبته (هند)، لأن أعراف القبائل تعيب مثل هذا الاعتراف، وباح للقارئ بهذه الأسرار، وبذلك العالم الخصب الغني المتناغم من مظاهر الطبيعة التي تبدو ساكنة هامدة، لكنها مليئة بالحركة وتعج بالحياة، مثل ثميلة الماء التي حفرت في الرمل وشرب منها الرجلان والناقتان، وآثار أقدام الطيور على الطين الطري يكاد المتخيل يراها.
لثد أخفى الكاتب شخصية الراوي وترك القارئ شريكاً في الأحداث، واتخذ أسلوباً الذي تجنب فيه الغموض، وكانت الأحداث جلية بينّة تصل إلى ذروة التعقيد ثم تبدأ بالوضوح التام، فليس هنالك أشياء معقدة.. وهذا الأسلوب الجميل يمتع القارئ المعذب المنهك من ظروف الحياة الرتيبة المملة المضجرة، فيزيد شيئاً في متعته ويقدم له فضاءً جديداً.
لهذا، كان هذا العمل المهم المليء بكل عناصر التشويق والإثارة والمتعة، مثلما كانت أرض الصفويين وقبائلهم وعلاقاتهم الإنسانية ونقوشهم الثقافية الخلفية الخصبة المتجلية الملهمة المليئة بالغموض والأسرار والمغامرات والمفاجآت في رواية «رؤيا صحراوية» للكاتب الأردني المبدع جهاد جبارة

أ.ر

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى