
وللبلاغة وجهُُ آخر يا بِلقيس
شبلي حسن العجارمة
أية بلاغةٍ يا بِلقيس الکرکي ونحن الشعوب التي قنعت بثقافة الثيران الثلاثة؟، ولا زلنا نتقاتل علی اختيار لون الثور الذي يناسبنا ولم نحلُم يوماً أن نکون أُسداً أو ضباعاً أو ذٸاباً أو مجرد أن نلعب دور القطط التي استعارت فراء الکلاب وثيابها وأنيابها وصرنا ولو من باب الخرمشات نجرح ؟، أي بلاغةٍ يا بِلقيس ونحن جملة النحو المختزلة في ” ضربَ المعلم الولدَ“ و”سرق اللص البيت“ ؟، أية بلاغةٍ يا بِلقيس ونحن الأمة التي اختزلت خطاب هارون الرشيد ”الجواب في ما تری لا في ما تسمع “ بعبيراتنا الثلاث الهزيلة ” نشجب، نستنکر ونرفض “؟، أي بلاغةٍ يا بِلقيس ونحن أمةُُ لا تعرف عن الجاحظ الجهبذ سوی إشکالية أصوله هل هو من العرب أم من الموالي؟، أي بلاغةٍ يا بِلقيس ونحن لم نقرأ عن ابن المقفع سوی جدلية زندقته ولماذا تقفعت يدا والده ونشجب تعربه لأنه روزبة بن برداذبة منکرين ترجمانه وفصاحته وکليلته ودمنه ؟، أية بلاغةٍ يا بِلقيس ونحن نعيب علی أبي محسّدٍ المتنبي تضخم الأنا والفخر بالذات ولا نحفظ من رواٸع حکمته إلا ما يناسب انتفاخ قبليتنا وعصبيتنا الجاهلية الأولی التي لا تتناسب مع جملة واقعنا ومواقفنا بتاتاً؟،أية بلاغةٍ يا بِلقيس وسادجُُ مخمور أو معطل يبث عبارة يل يل يل وکل الناس عنده إشقاءُُ للناٸمة بمسبته المشهورة ويتابعه الملايين ، وکاتبُُ موجوع لواقعٍ أوجع يعيبون عليه الإطالة في الوجع والتفجع ؟، أية بلاغةٍ وصورة السن الأول المخلوع لطفلٍ حصدت آلاف العبارات بينما حکمةً وبيت شعرٍ حصيف يتجاهله الملايين ؟،أية بلاغةٍ وکلمة منور قد دخلت الموسوعةالعالمية لقنس بکثرة استخدامها من قبل العرب علی مواقع التواصل الاجتماعي ؟ أية بلاغةٍ يا بِلقيس ونحن من أضاع هُوية الفصحی ولغة السماء ما بين العامية المشينة و pleas و Ok ، و Don ؟، أية بلاغةٍ يا بِلقيس ونحنُ قومُُ لا نعرف عن امرٶ القيس سوی إخفاء ثياب فاطمته وصويحباتها وتفحشه و وقوفه علی الطلل الخاٸب ؟، أيةُ بلاغةٍ يا بِلقيس ونحن ننادي بمساواة النساءِ فعلاً ولا زلنا نسميهن مجازاً ”شقاٸق الرجال، وأنصاف المجتمع وسنکمل نصف ديننا بهن“؟، أيةُ بلاغةٍ يا بِلقيس ونشرات الأخبار بما فيها نشرة الضباب والغبار والموتی وسوق الخضار ،يحررها ويدققها القيد وفوهة المسدس وحرس القضبان؟، أية بلاغةٍ يا بِلقيس ونحن من دفن عرار مرتين وصار شعره الذي أرخ لطغمة الکبت والفساد نتناوله ضحکاً ومزاح ولا نحفظ عنه سوی :
هات اسقني قعوار ليس يهمني
قول الوشاة عرار سکرانانِ.
أية بلاغةٍ يا بِلقيس ونحن لا نعرف من أفعال التاريخ إلا الأفعال الناقصة ” کان العرب“؟، أيةُ بلاغةٍ يا بلقيس والقاریءُ يٶرقه المقال الطويل ويغيضه المقال القصير ويشمٸز من العبارات اليتيمة ؟، أية بلاغةٍ يا بِلقيس ونحن لا زلنا نلعن المغول والتتار حين أغرقوا دجلة العراق وفراتها بکتب الکوفة ومکتباتنا المتخمة کالمقابر وحشةً وکتبها کالموتی اليوم صارت ملاذاً للعناکب ومواطناً للغبار بأدراجها ؟، أية بلاغةٍ يا بِلقيس وأعتی الأمسيات الأدبية بنثرها وشعرها لا يتعدَ حضورها أصابع الکفين بمعادلةٍ مخجلة عاٸلة الشاعر وصديقيه ونادل القهوة للدار الثقافية نتوسل إليه بالانضمام لأخذ الصورة من أجل التکثير ونشر الخبر ،في الوقت الذي تباع بطاقات فنانٍ هابط أو بطاقات التمتع بوجه فنانةٍ حسناء تباع بالسوق السوداء؟.
بِلقيس الکرکي ورفاقها في قسم اللغة العربية في شيخة الجامعات رغم عتيَّ الريح وهوجاء الموج وحلکة الليل في سفينة الضاد وفي زمن الحداثة المرّ والعولمة الغبية ،منهم من يرتق فتق الأشرعة ومنهم من يشعل أسرجة الزيت ومنهم من يحرس خزاٸن الکتب من قراصنة بني الأصفر والمغول والتتار ، وبلقيس الکرکي لا زالت علی نوخذة السفينة تمدُّ جسر البلاغة والبيان علی درب التراث العربي الأصيل ، تحاول ليَّ أعناق الهاربين إلی مزالق الثقافات الأخری والنظريات اللغوية الوضعية الأخری بأن کنوز المعرفة ودهاليز اللغة الفصحی لا زالت هنا ، تنادي أيها التشومسکيون ، يا أتباع جوليا کرستيفا أيها المقلدون الجدد ، يا أرباب العمی لأدونيس هذه بضاعتنا لن ترد إلينا من أمکم من لغتکم ، وصوتاً آخيراً من بِلقيس للرماة علی الجبل ”أفيقوا في سهام الشنفری وحصان بن يکرب ومخملية روح ابن الورد في إمارة الصعاليك ، وليکن فيکم أنفة ابن العبد ووقاحة الحطيٸة ، فإن ظمٸتم فلتشربوا من ماءِ معدٍ وإن جعتم فکلوا في صحن أم عمرو بن کلثوم ، واقتلوا فاتك الأسدي وضمدوا جراح المتنبي ، وإن انتهيتم فلتعقدوا الصلح الکبير بين درويش الأخير والملك الضليل الأول ولتعلقوا جدرايته في سعف نخيلکم بجوار معلقاتکم السبع .
…،ولا زال صوت بِلقيس الکرکي يرتحل عبر أسرار البلاغة والبلاغة الواضحة لعبدالقاهر الجرجاني علی درب التراث العربي وسٶالها الذي يفتح آفاق المعرفة العربية الظليمة ” هل البلاغة العربية الموروثة لا زالت قادرة علی سبر أغوار الحداثة وحلّ إشکالية الأدب الحديث بشقيه النثر والشعر وکشف أسراره أم لا وإن کان هناك عجزُُ ففيمن يا تری ،هل هو ببلاغتنا التي استوعبت إلی حدٍ کبير القرآن الکريم أم في جودة ونوع المثقف الحداثي وتغذيته الراجعة “؟.