مارون عبود. الرجل المسيحي العظيم الذي أحببته / حمد عمران كشادة

محمد عمران كشادة
كاتب من ليبيا

في حياتنا رجال تركوا بصمتهم وان لم تمن علينا الأقدار بلقائهم أو معرفتهم عن قرب، مارون عبود الرجل المسيحي الذي أحببته ، كان رجلا عظيما بكل معنى الكلمة، صاحب فكر نير ، وقلم مبدع، لا يمكن لأحد أن يقراء كتب مارون عبود ولا يعجب به، كلماته تترك أثرها في الروح والنفس التواقة للمعالي، وتشحذ الهمم ، وهي أشبه ببلسم لمن اكتوى من قسوة الزمن. أخر حجر ، وسبل ومناهج ، وأحاديث القرية ، وحبر على وروق ، وغيرها من الكتب التي ألفها مارون عبود ستظل خالدة خلود لغة الضاد .

ولد مارون عبود في قرية عين كفاح في لبنان عام 1886م ، وتخرج من مدرسة الحكمة في بيروت ثم اشتغل في التدريس والصحافة، وقد ألف حوالي 50 كتاب ، وله أيضا دراسات أدبية مهمة منها المحفوظات العربية ، والشيخ بشارة الخوري ، ورواد النهضة العربية ، وأمين الريحاني ، وأدب العرب، وبديع الزمان الهمداني ، وقد ألف القصص وترجمها عن الفرنسية ، بالإضافة إلي كتابة الشعر والمسرحيات.

وقد تعرفت إلى فكر مارون عبود عندما كنت طالباً في جامعة قاريونس في بنغازي في عام 1999م ، فقد حملني القدر السعيد ذات يوم إلى إحدى مكتبات المدينة لأجد كتب مارون عبود ، وليصبح هذا الكاتب والأديب العظيم من أكثر كتاب العرب قرباً إلى نفسي وله مكانة في قلبي .

يقول مارون في كتابه أخر حجر : ( في حياة كل إنسان دقائق أشبه بما يسمونه المعركة الفاصلة، فإذا أضعناها فكأننا نضع مصيرنا على كف عفريت، أو نرهن حياتنا بكاملها لأمل طائش ، ولا نرجو حلول الساعة التي يفك فيها الرهن ، وعندما قال الذين مشوا قبلنا على دروب الحياة: في العجلة الندامة ، كان مركوبهم ، أما أرجلهم ، واما قوائم حيوان مسخر لخدمتهم . أما نحن أبناء هذا الجيل ، فمركوبنا من نار وحديد وفولاذ ، منها ما يمشي على الأرض، ومنها ما يدع الطير خلفه ولا يلحقه مهما جد وكد . ولذلك قالوا هم : في التأني السلامة،ومع ذلك فقد رائنا في الأقدمين من امن بفوائد العجلة. اما قالت العوام : الضربة لمن سبق؟ وهذا ما ينطبق اليوم على عصرنا، عصر السرعة، اما روى التاريخ عن امرئ القيس ، انه قال عندما جاءه خبر مقتل أبيه: اليوم خمر وغدا أمر. وماذا فعل الغد لامرئ القيس، وأي غرض قضاه له؟ أليس الموت على الطريق وضياع الملك؟ فلو كان ترك ألكاس ونهض، لما اضطر أن يبكي ، هو وصاحبه، الذي بكى حين رأى الدرب دونه. ولما قال له هو: لا تبك عينك، إننا نحاول ملكا أو نموت فنعذرا).

ويقول مارون عبود عن الفلاح والنجاح في الحياة : ( ليس للفلاح إي النجاح في الحياة طرق معبدة، ولا خطوط حديدية ، ولا اوتسترادات. فعلى كل منا أن يشق هذا الطريق الضيق بيديه. وما أخال الباب الضيق الذي عناه يسوع إلا طريق الفلاح الذي كثيراً ما نهتدي إليه، ولكن بعد كد وعناء عظيمين. فمنا من يفلح شاباً، ومنا من لا ينفتح له باب النجاح إلا مكتهلاً، ومنا من لا يدرك شيئاً لا شاباً ولا كهلاً.

أصحيح أن الحظ يكمن لنا على جانب الطريق، فان التقينا به صفت لنا الحياة وعشنا ببحبوحة ورخاء، وإلا فإننا نظل نتعثر حتى نصادفه فنسير الهوينا وتفارقنا الحيرة؟. غالبا ما يكون الناجح المفلح من الكادحين في الحياة ، وهولاء هم الذين يوجهون أنفسهم ولا يوجههم اباؤهم وأولياؤهم ، ولذلك لا يعملون إلا بوحي من رغبتهم ، وهنا سر الفلاح. فإذا كنا نحب عملنا شققنا خطة نسير عليها للنهاية، وفزنا بأمانينا وتحققت أمالنا.

إن لنا منا وفينا موجها في طريق الفلاح ، فإذا سرنا بهديه عشنا مطمئنين، وإلا فإننا نظل على هامش الحياة. فما علينا يا ترى أن نعمل؟ علينا أن نتبع ما نميل إليه من عمل، فالعمل الذي نرغب فيه هو الذي يجب أن نتبعه) .

ويتحدث مارون عبود عن اختلال الموازين في المجتمع العربي فيقول: ( إن طمعنا بجعل أنفسنا غير ما نكون هو الذي أشاع هذه الفوضى في المجتمع . انظر إلى الناس ، فقلما تجد رجلاً في محله. فهذا جراح في مستشفى كان الأجدر به أن يكون جزاراً على ظهر وضم، وذاك مرب، لو أنصفته الأيام كان يجب أن يكون راعي بقر أو غنم ، وتجد محامياً لم يخلق إلا ليكون مزارعاً، وفتياناً يبيعون أوراق اليانصيب أو يحملون السل للعتالة كان يجب أن يكونوا على مقاعد الجامعات العالية يتلقون العلوم العويصة.

إن رغبتنا في المجد الباطل هي التي جعلتنا نتبادل المراكز، وهي التي جعلتنا نزدري المهن، ولا نفكر إلا بالسلطة الفارغة ولو على قن دجاج ).
ويقول مارون عبود عن العبقرية : ( عند الألمان مثل يقول : الفقر هو الحاسة السادسة. ومعنى هذا انه إذا كنا نعتمد على حواسنا الخمس لنعمل في هذه الدنيا ونفلح ، فالفقر يسلحنا بحاسة سادسة ، والستة خير من الخمسة، فلا تقل بعد هذا : انا ابن فقير، ولا تحسد الغارقين في بحور النعمة، ولكن قل: سأصير مثلهم. وشمر عن زندك، ولا تقض حياتك قانطاً بائسا، وبعد، فليس المال كل شئ، ولو خلق الناس مكفيين لما فكروا بعلم وأدب، ولظلت الإنسانية تفترش الأرض، ولما رائنا ناطحات السحاب، ولما سابقنا الطيور تحت قبة السماء، ما عليك إلا أن تفتح كتبك لتعلم أن أديسون الأمريكي هو من أبناء مدرسة البؤس، وان سبنسر الانجليزي كان غلاماً حافي القدمين . ودزرائيلي الذي وصل إلى رئاسة وزراء بريطانيا لم يكن يرفل في صغره بحلل الديباج، انه كان أخر الفقراء رتبة، ولكنه كان ذا عقل ثاقب وإرادة فولاذية. وقد عبر عن ذلك بقوله : إن ما حدث أمس سيحدث اليوم، وانا قادر على التغلب بالثبات والحمية على أعظم المصائب.

وجاء في كتاب الدكتور سويت ماردن عن لنكولن انه ولد في كوخ خشبي ولم يدخل مدرسة قط. كان وهو شاب يقطع الألواح ليبني له كوخاً خشبياً يأوي إليه، وهو بدون بلاط ولا نوافذ. تعلم الحساب على ضوء الموقدة ، وراح يجد ويكد حتى صار لنكولن الذي لا نزيده عظمة إذا قلنا: رئيس الولايات الولايات المتحدة الأمريكية).

ولان مارون عبود مربي عظيم ، ومعلم للأجيال ، ويحمل هموم الشباب وطلاب العلم فقد قال في رسالة موجهة للطلاب بعنوان ( إلى إخواني الطلاب ) قد تقولون، أيها الأعزاء: مابال هذا الرجل يركض وراءنا إلى بيوتنا؟ اما شبعنا من نصائحه في الخريف والشتاء والربيع حتى يلحق بنا في الصيف؟ أليس الصيف للاستراحة؟. نعم يا عزيزي، ولكن الصيف للتحصيل أيضا. انه لتحصيل غير التحصيل المدرسي .التحصيل المدرسي لابد من تجرعه، اما التحصيل الذي ادعوك إليه فهو مغذ لعقلك، ومنم لمعارفك، ومقو لتفكيرك. انه لذيذ الطعم لا تستطيع الحصول عليه في المدرسة. فالمناهج الموضوعة لك تضيق عليك، ولا تدع لك وقتا للمطالعة، مع أن القراءة النافعة هي الغذاء العقلي والدم الجديد، إن وصيتي لك ليست بدعة جديدة، فأنت طالب معرفة وعلم، وأول أية أوحى الله بها إلى الإنسان هي : ( إقراء باسم ربك) ، فانا إذن لم أتجاوز معك حدود الله، فاقراء باسم الله وتوكل عليه. وكما أوصى القران الكريم بالقراءة للاستنارة والهدى والرشاد، كذلك قال الإنجيل:( ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان )، فالإنسان إذن محتاج إلى خبز أخر هو خبز المعرفة.

ومن أجمل ما كتبه مارون عبود عن الطلاب الذين خالفهم الحظ ورسبوا في الامتحانات تلك الكلمات الرائعة التي ترفع المعنويات ، خاصة وان بعض الطلاب من ضعاف النفوس والهمم يلحقون الأذى بأنفسهم ، حين قال : هذا فتى يهدد بالانتحار، وهذه فتاة تتجرع صبغة اليود ، أو تزدرد كمية من أقراص الكاردينال ، وذاك شاب يتهدد ويتوعد ، ويسن السكين ليقضي بها على من يعتقد انه سبب له الرسوب وعوقه من الخوض في معترك الحياة.

لا يا حبيبي ، الروح عزيزة ومن يدريك أو يدرينا انك لا تكون في المستقبل السيد الذي يرفع رأس وطنه عالياً كأكثر الذين نتحدث عنهم حتى نطحت رءوسهم السماء وغابت وراء الغيوم؟ فحتى يهون عليك الأمر ، ولا تستصعب رسوبك، ادرس سير نوابغ العالم ، فقد تجد بينهم من رسب مثلك وخرج إلى العالم وليس في يده السلاح الماضي الحدين الذين تحلم به.

في عام 1962م رحل مارون عبود بروحه وجسده وبقى فكره خالداً ، وظلت قولته الشهيرة وتلك الأبيات الرائعة من شعره التي تعبر عن عشقه للعروبة والإسلام تؤكد للقاصي والداني أخوة العرب مسلمين ومسيحيين ، فقد قال مارون عبود: سميت ولدي محمداً نكاية بوالدي الذي سماني مارون ، وقد سمى ابنته فاطمة أيضا ، شعر مارون عبود خير دليل على عظمته عندما قال :
خفف الدهشة واخشع إن رأيت ابن مارون سمياً للنبي
أمه ما وضعته مسلماً أو مسيحياً ولكن عربي
حبذا اليوم الذي يجمعنا من ضفاف النيل حتى يثرب

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى