ماذا يحدث في غزّة؟
إعداد: سليم النجار- وداد أبوشنب
” مقدِّمة”
مفردة “السؤال” وحدها تحيل إلى الحرية المطلقة في تقليب الأفكار على وجوهها، ربّما هدمها من الأساس والبناء على أنقاضها، كما أنَّها من أسس مواجهة المجازر وحرب الإبادة التي يتعرّض لها الشعب الفلسطيني في غزّة والضّفّة، من قِبَل الاحتلال الاسرائيلي٠
في هذا الملف نلتقي بعدد من الكُتّاب العرب الذين يُقدِّمون لنا رؤاهم حول ماذا يحدث في غزّة؟
وما يستدعي الدرس والتمحيص والنقاش والجدال والنقد، لأنّ الأشياء تحيا بالدرس وإعادة الفهم، وتموت بالحفظ والتلقين٠
الأستاذ الدكتور سلطان المعاني من الأردن يكتب لنا من زاويته “ماذا يحدث #غزة”؟
ماذا يحدث في غزة؟
أ.د سلطان المعاني/الأردن
1-غزة و #طوفان_الأقصى
يتطلب تناول التحديات السياسية والأمنية والإنسانية التي تواجه قطاع غزّة حساسية دقيقة ووعي عميق بالتاريخ وقراءة ما بعد الأحداث الجارية على القطاع والمحيط. فقطاع غزة يشكل نقطة مركزية في الصراع الممتد عبر عقود مع احتلال ظلامي غاشم، يشكل رمزية صارخة لجرائم حرب ترتكب باسم دولة الاحتلال و”الاختلال”، فالقطاع يواجه حصاراً اقتصادياً، وأعمالا عدوانية وحشية بصورة انتقامية تتنافى مع كل مبادئ الإنسانية، فالمشهد في غزة أكثر فداحة من سياسة الأرض المحروقة، والاستهداف العشوائي لكل ما يتحرّك على الأرض، والمباني التي سويت بالأرض على رؤوس قاطنيها، والبنية التحتية المدمرة، والخدمات الأساسية المستعصي دخولها إلى القطاع مثل الرعاية الصحية والماء والغذاء والتدفئة. ولا يفوتنا أن نذكر أن سكان قطاع غزة يعاني من حالة حصار مفروضة منذ سنوات، مع قيود شديدة على الحركة منه وإليه، مما أدى إلى خنق الاقتصاد وتدهور ملحوظ في مستويات المعيشة، وارتفاع معدلات البطالة.
وعلى الرغم من هذه المصاعب، فإن الغزيّين يظهرون صبرا وصموداً وروحاً معنوية عالية عز نظيرها على تعاقب الأزمان والأحقال. فنراهم يتكيفون مع كل القيود المفروضة عليهم، ويجدون طرقًا لتعليم أطفالهم، ويحرصون على الحفاظ على العاليات الثقافية، ويساندون بعضهم بعضاً في مواجهة الصعاب والمحن. وتبقى غزة صورة للبقاء والمقاومة وسط واقع معقد وضمير دولي غائب وتحديات كبيرة.
يعتبر قطاع غزة نقطة محورية في الصراع الفلسطيني مع دولة الاحتلال، حيث يعيش حوالي مليوني نسمة في منطقة لا تتجاوز مساحتها الـ 365 كيلومتراً مربعاً. هذا الشريط الساحلي، محاط بحدود مغلقة من جانبي مصر والضفة الغربية، وهو يكابد تحت وطأة حصار اقتصادي خانق، منذ عقود.
سيتبدد هذا الظلام ليُشرق نور السلام على قطاع غزة، فتعبير “غزة تحت وطأة احتلال غاشم” لا يعكس فقط حالة جغرافية سياسية، بل يختزل الرواية الإنسانية لشعب يُمعن في البقاء والمقاومة. هي قصة صراع وأمل يتجدّد كل يوم، تضع على عاتق المجتمع الدولي الانتباه والعمل الجاد لإيجاد حلول عادلة ودائمة.
عندما نناقش “فلسطين: غزة” في سياق “الاحتلال الظلامي الظالم”، فإننا نتعامل مع منطقة تشكل بؤرة للصراع الشديد والممتد لعقود.
2-غزة عبر التاريخ:
من مفترق طرق قديم إلى صراع حديث: تتبع دور غزة عبر التاريخ كجسر بري بين القارات ونقطة مركزية للإمبراطوريات. غزة، بمعانيها الدالة على القوة والمنعة، هي واحدة من أقدم المدن في العالم، وتشهد على عمق وتعقيد التاريخ الذي تحمله المنطقة. يعود تاريخ تأسيس غزة إلى ما يقرب من 3500 عام، عندما أسسها الكنعانيون القدامى، وكان يُشار إليها باسم “هزاتي” أو في بعض الروايات “غزات”، مما يشير إلى جذورها العميقة في التاريخ الإنساني والحضاري. فخلال تاريخها الطويل، شهدت غزة حكم العديد من الإمبراطوريات والقوى المختلفة، من الفراعنة المصريين إلى الفلسطينيين القدامى، مرورًا بالفتح الإسلامي ووصولاً إلى العصر الحديث. هذا التعاقب المستمر للحضارات والثقافات جعل من غزة مكاناً ذا طابع فريد يجمع بين تنوع العصور وتعقيدات السياسة والتاريخ. وقد تعرضت غزة على مر العصور إلى العديد من الحصارات والمعارك نظرًا لموقعها الاستراتيجي الهام كمعبر بين آسيا وأفريقيا، وكمنفذ بحري على البحر الأبيض المتوسط. هذه الموقعية جعلتها عرضة للصراعات المستمرة التي أثرت بشكل كبير على التكوين الاجتماعي والاقتصادي للمدينة.
غزة كمدينة عريقة لها تاريخ يمتد عبر الحضارات المتعاقبة ولها العديد من الأسماء التي تغيرت مع تغير العصور والأمم التي تعاقبت عليها. الاسم “غزاتو” يُعتقد أنه كان مستخدمًا من قبل المصريين القدماء، ويعكس الأهمية الكبرى للمدينة في النصوص المصرية القديمة، بينما استخدم الآشوريون اسم “عزاتي” للإشارة إليها. هذه الأسماء تظهر كيف أن غزة كانت محط اهتمام للعديد من القوى الإقليمية عبر التاريخ. وتُظهر الوثائق الآشورية والمصرية أن غزة كانت نقطة تجارية هامة ومركزًا للقوة بسبب موقعها الاستراتيجي. في كل حقبة، أضفت الثقافات التي سيطرت على المنطقة طبقات جديدة من الهوية على المدينة، لكن جوهر غزة كمركز للحياة والثقافة ظل ثابتًا على مر الزمان. وتعكس هذه الأسماء المتعددة والتاريخ الغني لغزة التركيبة المعقدة للمنطقة وتفاعلها مع مختلف الثقافات والإمبراطوريات.
من الأسماء التي ارتبطت بغرة اسم “غزة هاشم”، ويرجع هذا الاسم تاريخياً إلى هاشم بن عبد مناف، جد النبي محمد صلى الله عليه وسلم. وفقًا للروايات التاريخية، توفي هاشم خلال رحلة تجارية في غزة ودُفن فيها، وهذا ما أعطى المدينة قيمة مضافة في قلوب الكثير من المسلمين. بالإضافة إلى ذلك، غزّة هي مسقط رأس أحد أبرز علماء المسلمين، الإمام محمد بن إدريس الشافعي، مؤسس المذهب الشافعي، أحد المذاهب الفقهية الأربعة في الإسلام. ولد الإمام الشافعي في غزة عام 150 هـ / 767 م ويُعتبر شخصية بارزة في تاريخ الفقه الإسلامي.
تمتلك غزة بذلك إرثًا ثقافيًا ودينيًا غنيًا، وهو ما يُسلط الضوء على أهميتها ليس فقط كموقع جيوسياسي أو تاريخي، بل كمكان له أهمية روحية ودينية عميقة في الذاكرة الإسلامية.
في العديد من مناطق النزاعات، يُحرم الأطفال من طفولتهم الطبيعية ويُجبرون على التكيف مع الواقع الصعب الذي يُفرض عليهم، سواء كان ذلك نتيجة للفقر، أو العنف، أو الحصار، أو الحرمان من الخدمات الأساسية. يعكس هذا الواقع مدى القوة والمرونة التي يتمتع بها الأطفال، لكنه يسلط الضوء أيضًا على الأثر البعيد المدى للصراع على نموهم وتطورهم. إن أطفال غزة، مثلهم مثل جميع الأطفال، يستحقون الحماية والرعاية وفرصة للنمو في بيئة آمنة ومحفزة، بعيدًا عن الأخطار والمعاناة التي يمكن أن تفرضها الظروف السياسية والعسكرية، لكنهم اليوم يستهدفون بشكل مباشر بالقصف والدمار والموت.
3-ماذا بعد يا غزة؟
غزة، يا من رويتِ قصص الصمود على مرّ العصور، وتشبّثتِ بأمل الغد في وجه عواصف الأمس واليوم. يا من علّمتِ أطفالك الحياة في دروبها الوعرة، ورسمتِ على وجوههم ابتسامات تقاوم الدمعة، وحكايات تتحدى الحزن. ماذا بعد، يا غزة؟
ماذا بعدُ لأرضٍ عانقت التاريخ، واحتضنت الحضارات، ووقفت شامخة أمام تقلبات الزمان؟ ماذا بعد لمدينة تتنفس رماد الحروب، وتزرع في الركام أملاً، وتنشد على أنقاض الصمت أغنيات البقاء؟
ماذا بعد، يا غزة، وأنتِ الشاهدة على قوافل الصابرين، والملهمة لقصائد تنزف وجعًا وكبرياء؟ هل سيأتي فجركِ الجديد محمّلاً بأحلام الصغار، مطرزًا بضحكات تغزل من الألم فرحًا، ومن اليأس إرادةً تكسر القيود؟
ماذا بعد، عندما يتلو الكبار للصغار حكايات الماضي، عندما تُحكى أساطير العزة والعنفوان في مساءات غزة، ويتعلم الأطفال أن في كل نهاية قصة، بزوغ فصل جديد يُكتب بأيديهم؟
ماذا بعد، يا غزة، هل ستشرق شمسكِ على امتداد بيدائنا من شواطئك الغربي إلى حدّ العروبة الشرقي؟ هل ستصدح أناشيد الحرية عاليًا فوق ترابكِ الطهور، وتعود الحياة في شوارعكِ تنبض بكل ألوان الحياة وأصواتها؟
ماذا بعد لأرض العناقيد والأقصى، لأرض عمرها أكثر من حكايات الزمان، وصبرها أطول من كل انتظار؟
أتساءل يا غزة، ماذا بعد؟ ولكن في القلب يقين، أن بعد الليل فجرا، وأن بعد الصبر نصرا، وأنّ بعد الشتات جمعا، وأن في صمودكِ رسالة للعالم أجمع: أن الحياة تنبع من الأمل، وأنّ الأمل في غزة لا يُمحى ولا يُهزم.