في فقه الكورونا

في فقه الكورونا
د. ذوقان عبيدات

غالبًا ما تنتج الأزمات ثقافة خاصة بها، فللحرب ثقافة، وللفقر ثقافة، وهكذا. تتحول هذه الثقافة بعد رسوخها إلى فقه، وتنتج قواعد، وتصنف السلوك إلى صحيح ومباح ومكروه ومرفوض، ويتنوع هذا الفقه في أنواع، مثل، الفقه السياسي، والصحي، والاجتماعي، والتربوي، وهذا ما نتج عن كورونا، على الرغم من عدم مرور وقت لإنتاج هذا الفقه، لكن شدة الإحساس بالخطر زاد من عمق التأثيرات، فسرعان ما ينتج هذا الفقه!

١- في الفقه السياسي
تمثل الفقه السياسي في بروز مظاهر عديدة، في مقدمتها إحساس الناس بالحكومة. ففي زمن السنوات الثلاثين الماضية، كانت الحكومات تأخذ معلوماتها من المواطن أو الإعلام. وفي زمن الكورونا صارت الحكومة هي المصدر الأساس للمعلومة. ولذلك نلحظ الظواهر الآتية:

– اختفاء المحللين الاستراتيجيين المدعين الذين عبروا عن فهمهم في السياسة والاقتصاد والتربية والاجتماع، وظهور فئة المختصين والفنيين، اختفت أسماء سيطرت على فضاءاتنا دون وجه حق، وبرزت أسماء جديدة -موثوقة- مثل سعد جابر، نذير عبيدات، عزمي محافظة، مخلص المفلح ، كما اختفت أسماء المنافقين من المسؤولين الذين يخرجون وقت الثلج لالتقاط صورة، ثم يعودون إلى منازلهم.
– زيادة الثقة بالمسؤولين، وزيادة الاحترام لهم، مثل وزير الصحة،وزيرة الطاقة, وزير الاقتصاد الرقمي،وزير الاقتصاد.وزير العمل و وزير التربية، وأنهت الحاجة لهم لإثبات صدقهم. فعدد المصابين محدد، وعدد من دخلوا المنصة الرقمية معروف، وعدد الدروس التعليمية وبرنامجها معروف،وخطط التموين جاهزة وهذا بحد ذاته إذا استمر سيولد ثقة تعكس فقهًا جديدًا في نظرة المواطن إلى حكومته. الوزراء ليسوا في العسل,بل في سهر ومسؤولية.
– تركت الحكومة مهامها الرئيسة -وهذا مطلوب- لتعلمنا مهارات حياتية أساسية! قالت لنا: كيف نغسل أيدينا وكيف نتعامل مع الكمامات إلخ. وأعجب شخصيًا لماذا لم يقم المعلمون بتعليمنا هذه المهارات، بدلًا مما أتخمونا به من معرفة لا تفيد أحد.

٢- كورونا في الفقه الاجتماعي
تذكرت نظرية الفيلسوف الإنجليزي “هوبز” حين قال: “الإنسان ذئب الإنسان”. فليس لنا عداوة مع الحيوان، حيث يمكن أن نصدّ أي حيوان بوضع حاجز حبلي أمام المنزل دون حاجة لأبواب محكمة وأسوار عالية. نحن نضع ونتفنن بإحكام منازلنا لا خوفًا من الوحوش والكلاب، بل خوفًا من الناس!!!
لا أدعي أن أزمة كورونا خلقت فقهًا اجتماعيًا جديدًا بالكامل، بل إنها كشفت في بعض الأحيان عن فقه داخلي عميق فينا. فالأنانية مثلًا، والجشع، واللامبالاة بالجار والآخر، هي قيم عزيزة علينا كبشر، تختفي أحيانًا، وتتضاءل أحيانًا، ولكنها وقت الأزمات تعبر عن نفسها بوضوح! وإلا كيف نفسر شراء مواطن خبزًا بعشرة دنانير!!!
أما أبرز ما كشفت عنه كورونا من فقه اجتماعي جديد فهو:
– سقوط نظرية الجماعة والتواصل الاجتماعي لصالح مفهوم جديد سمعته لأول مرة خلال الأزمة “وهو التباعد الاجتماعي”!!! تخيلوا قيمنا وعاداتنا وأدياننا تدعو إلى التواصل الاجتماعي!!
– سقوط نظرية الأسرة هي وحدة المجتمع، حيث ثبت أن كثيرًا منا اعتبر الجلوس مع أسرته سجنًا. ولعل النكات العديدة التي تداولها الأردنيّون تشير إلى ضيق ذرع بالبقاء مع الأسرة.
– ضعف قدرة أفراد الأسرة على تخطيط وقتهم، وإحساسهم بالفراغ وانعدام الأهمية. فالأردنيّون كغيرهم “ربما” يستمدون مجدهم من خارج الأسرة لا من داخلها!! فأفراد الأسرة متعايشون مع بعضهم، وربما كانت العلاقة بين بعضهم كالعلاقة بين الطفيليات وحواضنها لا أكثر. تاه أفراد الأسرة إلا الأم أو الزوجة التي زادت أعباؤها وأعمالها! وإلا كيف نفسر تفلت الذكور ودعوتهم إلى إنهاء حظر التجول؟؟بالمناسبة لم بخرق سيدة واحدة حظر التجول.
– تحالف المرض “كورونا”، والفقر، والعنجهية، والبرد. وهي أعداء لم نواجهها مجتمعة إلا هذه الأيام. وخلفت الأزمة سلسلة أزمات، وخلفت الحلول عدة مشكلات. فحظر التجول كان حلًا، ولكن خلق مشكلات عديدة. وإنهاء الحظر كان حلًا، لكنهم خافوا أن يخلق مشكلات أعمق!! ولذلك المطلوب البحث عن حلول إبداعية كما وضعها المهندس الروسي في نظرية Triz، حيث يطلب حل المشكلات الناتجة عن أي قرار قبل اتخاذ القرار نفسه.
– وأخيرًا، سقوط نظرية المنزل. وتقليل أهميته. فقد أثبتت كورونا أنه سجن للرجال، وأن كثيرًا منهم حاول الهروب من السجن بدلًامن إغنائه بأفكار وقيم وأدوات وأعمال جديدة. فالرجال “مبرمجون” خارج المنزل حيث يرون ما لا يرونه في منازلهم!!

3- كورونا والفكر التربوي الجديد
اعتقد كثيرون أن العملية التعليمية يجب أن تستمر! وهذا مطلوب وصحيح- كما ذابوا حسرة على طلبة التوجيهي. وتنافخوا فخرًا باستمرار العمل معه. وتفننوا في “اختراع” التعليم عن بُعد. أقول اختراعًا لأنهم لم يراكموا خبرة في هذا المجال، على الرغم من وجود التلفزيون التربوي قبل خمسين عامًا !!

لن أتحدث عن خبرتي كتربوي، بل مما شاهدته كمواطن في الدروس التي تمّ تقديمها عبر قناة التلفزيون –الأردنية الرياضية-.

شاهدت ثلاثة دروس، وهذه خلاصة الفقه التربوي الذي رأيته –ولم أستنتجه- رأيته بوضوح!!
قالوا إن التعليم عن بُعد ليس حلًا للأزمة بل انتقال ضروري للعصر، وهذا الكلام صحيح لو فكروا به سابقًا –وقد فعلوا ذلك- ولكن ليس بالدرجة الكافية. المهم في التعليم عن بُعد أن لا ينتقل التعليم التقليدي بأدوات جديدة، أو كما يقال: خمر قديم في زجاجة أنيقة!! لكن ما يشاع عن فقه التعليم عن بُعد في كورونا أنه تطوير، وهذا ليس دقيقًا!! أقبل أنه حلٌ للأزمة وليس تطويرًا. ولكنه قد يكون تطويرًا إذا قصدنا ذلك بأدوات جديدة!!
– شاهدت في التلفزيون: قناة الأردنية الرياضية، عدة دروس آخرها فجر اليوم عن: عوامل مؤثرة على التفاعلات، لقنها المدرس بأنها نوع المادة، قوة تركيزها، مساحة السطح, درجة الحرارة إلخ. تحدث وحده مطولًا، ولم يستخدم سوى الشرح اللغوي، مع أن الموضوع قابل جدًا لاستخدام التكنولوجيا البصرية المتحركة بسهولة جدًا!! إذن، كان درسًا تقليديًا 100%، تلقينيًا 100%. ولم يُشر المدرّس إلى أي تطبيق حياتي!! حزنت لا على المعلّم بل على المعلّم والمنهاج!!والمتعلم قبل ذلك كله.
– وفي فقه كورونا كانت الدروس خارجة عن صداقة الدماغ. فالدماغ يتعلّم بما يشغله، وبأساليب متنوعة، وبتغذية راجعة، وبعمل جماعي، وبحركة، وبوقت كاف، وبأمن كامل. وكلها عوامل مفقودة في دروس التعليم عن بُعد. والسؤال: هل يجب أن نُعلّم الطلبة رياضيات وفيزياء دون ربطها بالحاجات الصحية والأمنية للطلبة؟ إنه التوجيهي عدو التطوير !!
– وفي فقه كورونا، كان المعلّم يعمل داخل الصف -بمعزل عن المجتمع-. أما الآن فصار مكشوفًا أمام جميع الناس. ولذلك فإنه مطالب بالتغيير.

بعيدًا عن كورونا، التعليم عن بُعد له أدواته وبيئاته وخبراته ومؤهلاته، وعلينا البحث عنها فورًا ليكون خيارنا المقبل، وليس اضطرارنا اليائس!!

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى