لن يطول انكساري / سعيد ذياب سليم

لن يطول انكساري
سعيد ذياب سليم

تجلس وحيدة على سور الحديقة، في شمس الشتاء الخجولة، تشرب كوب قهوتها الصباحية، تسحب من سيجارتها، تحتفظ بدخانها قليلا ، ثم تطلقه في الهواء، تحدق به وهو يتلاشى ، باحثة فيه عن علامة كما يفعل قارئوا “البخت ” من السحرة، منحيّه وجهها قليلا عن حركة المرور، كأنها تخفي شيئا، تغمرها أشعة الشمس، تصارعها الافكار بصمت، يسكنها الخذلان، ويستوطنها الانكسار، تجتر الذكريات وتعيد على النفس نصوص أحزانها، تدقق النظر في مشاهد حياتها، متى التقينا، وكيف كان الفراق، وأين أطفأت الدمعة شعلة الفرح.

.. مَررتُ ببيته بالأمس، ما زال كما كان منذ سنوات، حديقته مهملة، نوافذه مغلقة، ساحته خالية، سمعتُ صدى حديثه، ضحكاته، وتعليقاته الساخرة عند الباب، توقفتُ قليلا، ابتسمتُ ببلاهة، شعرتُ بيد تعتصر قلبي، كدتُ أقع لولا استنادي إلى الحائط، أحسستُ بيده تربت على كتفي،” سأعود فلا تقلقي “، كانت آخر كلماته قبل أن يأخذه البعاد.

لم تستطع شعلة المدفأة أن تخفف برد الوحدة، في الليلة الماضية، ولا نار الحنين، تقلبتُ على جمرات من جليد، لم أنم إلا في سويعات الفجر الاولى، لم يشغلني الكتاب الذي أقرأ ، بشخصياته الملونة، ولا رقصات ” زوربا اليوناني” التي يعبر بها عن مشاعره عندما تخذله اللغة، هل أرقص مثله على هذا الرصيف؟ هل يزيل ذلك شيئا من وجعي ،أم يقولون جنّت ؟ إن رؤيتهم لي أدخن سيجارتي، جعلهم يقومون بحركات غريبة، ذلك ينظر إلي مبتسما، وآخر يهز كتفيه مستنكرا، وكأنني أمارس الخطيئة!

مقالات ذات صلة

خشيتُ الخروج ليلة أمس، بعد أن أنهيتُ علبة سجائري، لأشتري واحدة، حتى القهوة ، كانت قد نفذت و نسيت احضارها عند انتهاء عملي، حاصرني الليل و الحنين، والفراغ، لولا همس موسيقى تسلل إليّ من مذياعي الصغير، حملني إلى شاطئ الاحلام، رأيته هناك يجمع نجوم البحر الصغيرة، ليزين بها شعري، أفقت .. وليتني لم أفق .

وقفتُ أمام المرآة، هالة سوداء تحيط بعيني، و خطوط شعاعية دقيقة في الزوايا ، كان يحلو له لون عيني، يستغرب تقلبه بين الظل و الشمس، ترى هل يذكر هاتين العينين؟ أم أغرقَتْه أعين أخرى، بلون البحر ربما؟

قليلا من المساحيق، وحركات خفيفة بالفرشاة، تزيل الإرهاق ، ولون وردي يضيف بعض الحياة، و خرجت كالمدمنين، أحمل حقيبتي بما تبقى من راتب، أبحث عن مقهى و سيجارة.

أجالس وحدتي ، تصحو المدينة شيئا فشيئا، تمر من أمامي، تهتز ، تتنفس، تتحرك، ترف طيورها، تشترك العناصر مجتمعة في جوقة موسيقية، تناغمت معها روحي، جلب لي طعم القهوة والرائحة قليلا من السكينة، صوت أجراس كنيسة تدق من بعيد، و آيات يقرأها خطيب المسجد يتعانقان صعودا باتجاه السماء، أنامل الشمس تداعب وجنتاي، سرت أخيرا بعد أن تناولت جرعة السعادة اليومية، مررت بحشد من الناس يهتفون، يحملون يافطات و أعلاما خفاقة، ويهتفون للقدس، سرت بينهم ، ترقرقت في عيني دموع حائرة، وهمست ” لن يطول انكساري”.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى