مثقفون أم رهائن !؟ / خيري منصور

مثقفون أم رهائن !
حين مُنحتُ جائزة دولة فلسطين همست في أذن الصديق الباقي محمود درويش وكنا نجلس حول مائدة الرئيس ياسر عرفات: ما أخشاه يا محمود هو أن من يظفر منا بالتكريم هو من كان أسرع من أخوته في إبلاغ امه أن أباه قد مات. صمت محمود قليلا ثم قال ستكون سهرتنا المقبلة حول هذا الهاجس، وبالفعل قضينا ساعات ونحن نحاول استقراء دور الأنتلجنسيا العربية خلال قرن شهد حروبا كونية وحراكات وطنية واستقلالات، منها الزائف المجاني ومنها مدفوع الثمن بالدم، وانتهينا إلى أن الأسرع من أخوته في إبلاغ أمه أنها أصبحت أرملة يستحق جائزة هي تمثال لغراب، سواء كان من ذهب أو من فحم!
إن النخب في المجتمعات البشرية على اختلاف البيئات والثقافات لا تنشأ من فراغ، ولا تفرزها أكاديميات ومعاهد، إلا إذا كان ذلك على الطريقة التي عبّر عنها مالك حداد ساخرا وهو يتساءل عن معاهد الموسيقى التي تخرجت منها البلابل، وأي مقاربة للأنتلجنسيا وكيفية تكونها يجب أن تحذر من التعميم، لأنه يفضي بالضرورة إلى التعويم، فالنخب تعبر عن فئات وطبقات تنتسب إليها ووضعها في قارب واحد فيه الكثير من التعسف، لأن من تعهدوا تبرير الاستبداد، وكذلك استباحة مصائر الشعوب كان منهم مثقفون واأكاديميون، وعلى سبيل المثال فإن من دافعوا عن الإنكليز أثناء احتلالهم لمساحات من وطننا العربي كان منهم من تخرجوا من جامعات الغرب، أو من الذين يجري تصنيفهم في خانة المثقفين، وما كتبه حافظ عفيفي باشا، وأمين المميز يعتبر أمثولة وليس مجرد مثال على التماهي مع الآخر الغالب تبعا لأطروحة ابن خلدون الشهيرة عن ثنائية الغالب والمغلوب.
والسؤال في سياق كهذا هو باختصار هل ينتهي دور المثقف عند النعيق فوق أطلال بلاده؟ أم أنه يرى مبكرا ما لا يراه الآخرون ولديه من الحدس ما يجعله يستشعر الخطر قبل اندلاعه! قد تكون هزيمة يونيو/حزيران عام 1967 مناسبة نموذجية للإجابة، فما أن وقعت الهزيمة حتى أصبح النعيق يملأ الفضاء. شعراء وروائيون وكتّاب مقالات عبروا عن إحساسهم بالصدمة والفجيعة، كما لو أنهم كانوا قد حصلوا على بوليصات تأمين سياسية وعسكرية ضد الهزيمة، لهذا تحول البطل خلال أقل من أسبوع إلى سبب للكارثة الوطنية، وما من أحد سأل نفسه عن نصيبه من تلك الهزيمة، أو ما الذي قدمه من أجل الانتصار الذي توقعه. ولا أدري كيف ترسخ في وعينا ولاوعينا معا أن دور المثقف يقتصر على الإدانة والتجريم حتى لو كان هو نفسه أحد أسباب التخلف، خصوصا إذا كانت ثقافته موظفة لتبرير الأخطاء وتزوير الحقائق، وربما لهذا السبب ننظر الآن وفي ذروة هذا الانتحار القومي والتآكل الطائفي بحثا عن المثقف الذي لا يرتهن لطائفته أو نظام بلاده السياسي فلا نجده، لكنه موجود خارج إضاءة الميديا التي لا تقيم وزنا لمن لا يتناغم معها، وما حدث بالفعل خلال عقدين أو ثلاثة هو أن ما جرى في العالم العربي اختبر منسوب الوعي لدى من يصنفون في خانة النخب، فكانت نسبة الرسوب عالية، ومن طفوا على السطح هم الأقل تجذّرا في تربة الواقع الحية والأخف وزنا. لهذا فإن المعادل الموضوعي لزيف المشهد السياسي وما تفرزه الطبقة السياسية هو مثقفو الميديا المتخصصون في اختزال كتاب إلى سطر، ومشهد بانورامي بالغ التعقيد إلى سطح، وكارثة قومية تنذر بالانقراض المعنوي إلى مجرد أزمة.
إن فساد النخب هو فساد الملح الذي لا يرجى بعد فساده بقاء أي شيء على حاله، وحين ينهي التاريخ صلاحية ثقافة توقفت عن النمو، فإن كل ما يصدر عنها يصبح فاقدا للصلاحية أيضا.
ويخطئ من يتصور بأن هذا الضجيج شبه الثقافي والملحق باسطبلات الميديا هو حراك ثقافي جدي، لأن البيدر كما يقال يفضح الحصاد والموسم، وإذا كان الاقتصاديون يستخدمون مصطلح البطالة المقنعة عندما تفيض البيروقراطية عن حدودها، فإن للثقافة أيضا بطالتها المقنعة، وهذا ما يشعر به المثقف العربي الآن وهو ينظر إلى ذاته كما لو أنه اسفنجة تتلقى ما يسكب عليها، وإن ما يكتبه لا يصل إلى المرسل إليه، وفي حالات كهذه تصبح الثقافة برمتها مونولوجا بلا نهاية، أو ما اسميه رقصة التانعو أمام المرايا، أو لعبة تنس بلا شبكة. فهل انتهى دور المثقف العربي إلى إبلاغ أمه بأن اباه قد قّتل قبل زملائه وأخوته؟ خصوصا إذا تذكرنا شعراء وكتابا انتفخت أوداجهم وزهوا على غيرهم لأن ما نعقوا به قد تحقق، وأن ما توقعوه من كوارث كالعرافات قد حدث.
إن السؤال قدر تعلقه بالنخب وبطالتها المقنعة الآن هو ما طرحه ذات يوم الشاعر برتولد بريخت وهو: أين كان الشعراء والكتاب عندما سالت دماء شعوبهم في الشوارع؟

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى