لننشر ثقافة العدل حتى تختفي ثقافة العيب

لننشر ثقافة العدل حتى تختفي ثقافة العيب
أ. د أحمد العجلوني

أعلن ديوان الخدمة المدنية قائمته السنوية للتخصصات المطلوبة والمشبعة والراكدة لكي يسترشد بها طلاب الثانوية العامة في اختيار التخصصات التي سيدرسونها. كما تم الإعلان في نفس الفترة عن مشروع التطوير الوظيفي في المسارات المهنية الذي وافق عليه مجلس التعليم العالي منذ أيام. ويثير تزامن هذين الخبرين الكثير التساؤلات حول نتائج الثانوية والتوجه نحو التعليم الجامعي مقارنة بالتعليم المهني، كما يثير علامات استفهام كثيرة حول واقعية وجدوى ما تم تشكيله لغايات تطوير الموارد البشرية الوطنية ومواءمة مخرجات التعليم مع متطلبات سوق العمل وتشجيع الشباب على الإقبال على التعليم المهني. وتزخر رفوف الملفات في المؤسسات المعنية بما هب ودب من المبادرات والاستراتيجيات والسياسات واللجان؛ والتي لم تتطرق إلى أساس المشكلة بقدر ما كان وجودها فرصة للاستعراض الإعلامي؛ كحال الكثير من الخطط الحكومية، وكان مصيرها الرفوف المغبرّة أو سلال المهملات.
كما يثير تزامن هذين الخبرين كوامن الحنق والكمد والغضب فيما يتعلق بالعدالة في توزيع المقاعد الجامعية وما يشوبها من عورات؛ إذ أمست الاستثناءات فيها هي القاعدة وأصبح التعليم طبقياً ولمن يدفع أكثر. ومع ذلك وقبله تستجد قضية العدالة في التعيينات بعد التخرّج والتي تعد معضلة قائمة منذ فترة طويلة تفاقمت بشكل خطير في العقدين الأخيرين ونجم عنها اختلالات اجتماعية واقتصادية غاية في الخطورة.
وكأن ما يحدث من تخبط في القرارات وضياع البوصلة في إدارة عموم الأوضاع في البلد لم يكن كافياً، لتأتي ممارسات وزارة التربية في تشويه نتائج الثانوية بشكل خطير وغير مسبوق لتلقي بقنبلة القبولات الجامعية في حضن مؤسسات التعليم العالي وأهالي الطلبة، فلا الجامعات الحكومية قادرة ضمن برامجها الاعتيادية على استيعاب الأعداد الضخمة من ذوي المعدلات المرتفعة في التخصصات التي تناسب معدلاتهم، ولا الأهالي قادرون على تلبية طموحات أبنائهم في الحصول على تلك المقاعد. ولا يتبقى أمام “المقتدرين” منهم؛ وأقصد بهم من يستطيع أن يقترض أو يبيع قطعة أرض أو مصاغ، وليس الأثرياء ” الواصلين “؛ فأولئك هم من يحصلون على المقاعد المجانية في الجامعات المحلية وعلى المنح في الدول الأجنبية “المحرزة”، ليس على أولئك “المقتدرين” سوى أن يلجؤوا للتعليم الموازي أو الدولي أو للجامعات الخاصة ذات التكاليف الباهظة. أما غير المقتدرين من الطلبة وأهاليهم فقد أوصدت أمامهم الأبواب للتعليم الجامعي (إلا باب الفرج من الله!). أما البحث فيما إن كانت التخصصات غير مناسبة للسوق أو راكدة أو مشبعة أو غير ذلك فهذا من “البذخ” الذي لا يجرؤ هؤلاء الأهالي والطلاب عليه.
ويزيد الأمر حسرة على الأهالي وأبنائهم أنه ليس أمامهم سوى التعليم المهني الذي لا يرغب به الكثيرون، ويرجع البعض هذا الأمر إلى الخجل من القيام بالأعمال المهنية المختلفة فيما يسمى بـ”ثقافة العيب”. وإنني أرى في هذا ظلماً للأبناء وذويهم، فالأردنيون منذ القدم هم من الطبقة الكادحة أو ما نحب أن نسميهم بالحرّاثين من معلمين وعسكر ومزارعين وحرفيين وغيرهم. أي أن الأردني بثقافته لا يخجل من عمله ولا من عمل أبيه. ولكن المشكلة تكمن في فقدان “ثقافة العدل” وليس في “ثقافة العيب”
قبل طرح الحلول فإنه من الضروري بل الضروري جداً تشخيص المشكلة بشكل صحيح، إذ تكمن المشكلة الأساسية في جانب العدالة التي تذوب وتذوي شيئاً فشيئاً لتزيد عتمة الحاضر وظلمة المستقبل أمام الأجيال. ولئن بقيت العدالة غائبة كما هو الحال فسوف تتفاقم مشكلة توزيع الطلاب على التخصصات المناسبة وستبقى مؤسسات التعليم العالي تضخ عشرات الآلاف من العاطلين عن العمل من حملة الشهادات، وما يترتب على ذلك من مشاكل اقتصادية واجتماعية بل وأمنية حتى! فالمطلوب قبل حل مشكلة التخصصات والرغبة في التعليم المهني من عدمه أن تكون حظوظ ابن الوزير وفرصه في التعليم والتوظيف كما هي لابن سائقه، وكذا الأمر بين جميع أبناء البلد، وهذا الأمر قد يبدو في هذه الظروف نوعاً من أضغاث الأحلام في سياق واقع كئيب نعيشه. ولكن هذا هو الوضع السليم الذي يجب أن تدار على أساسه الأمور. وبغير نشر العدل فإن كل الخطب والشعارات لن تقنع الشباب بمصداقية الحكومات وتوجهها نحو توفير مستقبل مزدهر لهم ولا للبلد وستزيد من انسداد الآفاق أمامهم. ومن الأفضل توفير الأموال العامة التي تنفق على الاستراتيجيات والبرامج والخطط واللجان.

حفظ الله الأردن من كل شر؛ وأدام ازدهاره

مقالات ذات صلة
اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى