( لقاءٌ بعيداً عن الأضواء )
مهند أبو فلاح
الثالث و العشرين من تشرين ثاني / نوفمبر ٢٠٢١ رحل عن دنيانا الفانية الزائلة الدكتور محمد عيسى ابو سمور المناضل البعثي المخضرم المعروف بإسمه الحركي إبراهيم حمدي عن عمر يناهز سبعة و سبعين عاما بعد حياة حافلة بالكفاح في سبيل قضايا أمتنا العربية المجيدة و رسالتها الخالدة .
السواد الأعظم من قراء هذه السطور بل الغالبية الساحقة تجهل تاريخ هذا الرجل الذي خاض العديد من الملاحم البطولية دفاعا عن القيم و المباديء السامية التي آمن بها سواءً أكان ذلك في صفوف حزب البعث العربي الاشتراكي او الذراع العسكرية الضاربة له جبهة التحرير العربية التي ساهمت مساهمة فاعلة في الثورة الفلسطينية المعاصرة .
على أية حال فقد حظي كاتب هذه المقال بشرف اللقاء بهذه القامة الشامخة قبل بضعة سنوات و تمحور الحديث عن لقاء جمع الراحل الكبير ابو سمور ( إبراهيم حمدي ) عندما كان في ريعان شبابه مع مؤسس حزب البعث العربي الاشتراكي الاستاذ أحمد ميشيل عفلق في منزله بدمشق الفيحاء و تحديدا في حي الميدان الشامي العريق .
اللقاء الذي جمع الاستاذ عفلق بكوكبة من شباب البعث المتحدرين من الضفة الغربية في منتصف ستينيات القرن الماضي في العاصمة السورية دمشق كان ما زال عالقا في ذهن الدكتور إبراهيم حمدي و كأنه جرى بالأمس القريب رغم انقضاء عدة عقود من الزمن عليه ، و كانت كلمات الدكتور المناضل تصف هذا اللقاء بكثير من الحرارة .
كان الأستاذ عفلق رحمه الله تعالى يتمتع بهآلة أسطورية لدى الجيل العربي الصاعد في ذلك الحين و من بينهم الدكتور حمدي الذي كال المديح لمؤسس البعث مثنيا بخاصة على هدوئه و وقاره الساحر الجذاب و لم يكن ذلك مستغربا على الاطلاق من رجل آمن بعقيدة البعث الرسالية القومية المؤمنة و دافع عنها باستماتة حتى الرمق الاخير .
كلمات الدكتور حمدي ذكرتني بما أورده الكاتب العربي السوري حمدان حمدان في كتابه ” أكرم الحوراني رجل للتاريخ ” حيث نقل عن صحيفة التايمز اللندنية في عددها الصادر بتاريخ ٨ تموز / يوليو ١٩٥٩ قولها : – ” لم يكن عفلق بالنسبة للمعجبين به بمثابة انسان ذي سلطان فحسب ، بل إنهم يعتبرونه قديسا و قد وُصِفَ بأنه – غاندي القومية العربية – رجل شاحب هزيل ذو حياء يشعر بالألم و الصدق العميق و له عادات ذات طابع رصين ” ، لكن ما ادهشني حقا هو ما جرى في نهاية الحديث بين الأستاذ عفلق و أولئك البعثيين الشبان الصاعدين الواعدين و من بينهم فقيدنا الراحل الدكتور ابراهيم حمدي .
يقول الدكتور حمدي طلبنا في نهاية الجلسة مع الاستاذ عفلق أن يوصينا بشيء قبل أن نقفل عائدين إلى إدراجنا من حيث اتينا في ضفتنا الغربية التي كانت في حينها جزءً لا يتجزأ من المملكة الأردنية الهاشمية حيث اوصاهم بأمرين اثنين أما الأول فهو قراءة ما تيسر خلال رحلة عودتهم !!!!! حيث يقول الدكتور حمدي استنتجنا و فهمنا من ذلك أن الأستاذ عفلق يشير ضمنا من خلال قوله هذا إلى تلاوة ما أمكن من القرآن الكريم خاصة أن أدبيات البعث كانت محظورة في ذلك الحين في الاردن على خلفية حل الأحزاب و من بينها البعث في العام ١٩٥٧ و القبضة الأمنية المشددة التي تفرضها السلطات في هذا الصدد و العقوبات القاسية الصارمة التي تنتظر من يقتنيها .
أما الوصية الثانية فقد اجملها الاستاذ عفلق رحمه الله تعالى بكلمتين اثنتين فقط ” إصبروا و صابروا ” عملا بقول الحق جل جلاله في علاه في الآية الأخيرة من سورة آل عِمران ” يا أيها الذين ءامنوا إصبروا و صابِروا و رابِطوا و اتقوا الله لعلكم تفلحون ” و التي جاءت مباشرة بعد الآية ١٩٩ من السورة نفسها و التي نزلت في النجاشي ملك الحبشة الذي اعتنق الاسلام دون أن يشهر ذلك و الذي صلى عليه الرسول العربي الكريم سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم صلاة الغائب و التي يقول فيها رب العزة و الجلال في محكم تنزيله المجيد ” و إن من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله و ما أُنزِل إليكم و ما أُنزِل إليهم خاشعين لله لا يشترون بآيات الله ثمنا قليلا أولئك لهم أجرهم عند ربهم إن الله سريع الحساب “
أخيرا و ليس ءاخرا ما ينبغي أن يدركه القاصي و الداني أن كثيرا من الحقائق قد تتوارى عن أنظار الناس لحقبة من الزمن في ظل تشويه متعمد مريب لها ، و لكن شمس الحقيقة لا يمكن أن تحجب بغربال مهما طال الزمان و أنها سوف تسطع و لو بعد حين رغم أنوف الظالمين فمن بين زوايا النسيان تطل علينا كزهور نيسان حينما يحصحص الحق في صدور الرجال تماما كما كانت وفاة الدكتور إبراهيم حمدي دافعا للحديث عن لقاء بعيدا عن الأضواء .