كَعْبُ الدُّسْتِ

                 كَعْبُ الدُّسْتِ

الْكَاتِبَةُ : هِبَةُ أَحْمَدَ الْحَجَّاجِ

دَقَّ جَرَسَ اَلْمُنَبِّهِ ، وَشَعَرْتُ أَنَّهُ لَمْ يَدُقَّ جَرَسُ الْمُنَبِّهِ فَقَطْ بَلْ أَنَّ هُنَاكَ مِطْرَقَةً تَطْرِقُ رَأْسِي ، نَظَرْتُ إِلَى السَّاعَةِ كَانَتْ لِلْأَسَفِ السَّاعَةَ السَّادِسَةَ تَمَامًا ، كُنْتُ أَتَمَنَّى لَوْ أَنَّ هَذَا الْمُنَبِّهَ أَخْطَأَ فِي التَّوْقِيتِ ، هَذَا الشُّعُورُ لَا يُضَاهِيهِ شُعُورٌ وَتَحْدِيدًا فِي فَصْلِ الشِّتَاءِ ، وَلَنْ يَفْهَمَ أَحَدًا شُعُورِي إِلَّا طَبَقَةُ الْعَامِلِينَ مِثْلِي . .

نَهَضْتُ مِنْ فِرَاشِي وَشَعَرْتُ أَنَّنِي بِالْكَادِ أَحْمِلُ نَفْسِي مِنْ الْفِرَاشِ وَكَأَنَّنِي أُرِيدُ حَامِلَةَ أَثْقَالٍ لِتَسْحَبَنِي إِلَى الْأَعْلَى .

وَقُمْتُ بِتَجْهِيزِ نَفْسِي لِلذَّهَابِ إِلَى عَمَلِي وَبَيْنَمَا أَنَا كَذَلِكَ ، نَظَرْتُ إِلَى الْمَرْأَةِ وَتَذَكَّرْتُ مَقُولَةً سَمِعْتُهَا يَوْمًا مَا تَقُولُ : – ” اَلْإِنْسَانُ النَّاجِحُ يَذْهَبُ لِعَمَلِهِ وَكَأَنَّهُ يَذْهَبُ إِلَى مَوْعِدٍ غَرَامِيٍّ ” . – صُطْفَى أَمِينٍ .

وَبِالْفِعْلِ أَصْبَحْتُ أُهَنْدِمُ نَفْسِي أَكْثَرَ مِنْ اللَّازِمِ وَتَحَمَّسْتُ لَعَلَّنِي أَقَعُ فِي حُبِّ عَمَلِي مِنْ جَدِيدٍ !

ثُمَّ نَظَرْتُ إِلَى الْمَرْأَةِ مَرَّةً أُخْرَى وَتَذَكَّرْتُ قَوْلَ الْمِلْيَارْدِيرِ جُورْجْ سُورُوسْ يَنْصَحُ صَدِيقَهُ فِي رِسَالَةِ إِيمِيلْ حَيْثُ يَقُولُ لَهُ : مُشْكِلَتُكَ أَنَّكَ تَذْهَبُ كُلَّ يَوْمٍ لِلْعَمَلِ ! وَتَعْتَقِدُ أَنَّكَ لَابُدَّ أَنْ تَفْعَلَ شَيْءٌ لِأَنَّكَ ذَهَبْتَ لِلْعَمَلِ !

أَنَا أَذْهَبُ لِلْعَمَلِ فِي الْيَوْمِ الَّذِي يَسْتَحِقُّ أَنْ أَذْهَبَ وَأَفْعَلَ شَيْءٌ .

لِأَنَّكَ تَذْهَبُ كُلَّ يَوْمٍ لَا تَعْرِفُ مَتَى يَكُونُ هَذَا الْيَوْمُ الْمُمَيَّزُ !

هَلْ بَالِغٌ ، أَمْ هِيَ فِعْلًا مُشْكِلَةٌ سُلُوكِيَّةٌ ؟

قُلْتُ لِنَفْسِي يَجِبُ أَنْ أَذْهَبَ عَلَى الْفَوْرِ ، لِأَنِّي إِذَا تَأَخَّرْتُ دَقِيقَةً أُخْرَى ، لَنْ يَسْأَلَنِي مُدِيرِي حَتَّى لِمَاذَا تَأَخَّرْتُ بَلْ سَيَقُولُ قَدِّمْ اسْتِقَالَتَكَ عَلَى الْفَوْرِ .

وَأَصْبَحُ بِلَا عَمَلٍ وَبِلَا دَخْلٍ مَادِّيٍّ وَأَصْبِحُ أَتَسَكَّعُ بِالشَّوَارِعِ ، وَرَكَضْتُ عَلَى الْفَوْرِ إِلَى عَمَلِي الْحَبِيبِ ، لَيْسَ إِلَى مَوْعِدٍ غَرَامِيٍّ فَقَطْ بَلْ رَكَضْتُ إِلَيْهِ بِكُلِّ شَوْقٍ وَلَهْفَةٍ وَكَأَنَّنِي لَمْ أَرَاهُ مِنْ سِنِيِينَ .

وَوَصَلْتُ إِلَى مَكَانِ عَمَلِي عَلَى الْوَقْتِ تَمَامًا ، وَمَا إِنْ وَصَلْتُ رَأَيْتُ زَمِيلِي يَرْكُضُ مُسْرِعًا مُتَّجِهًا نَحْوِي وَكَأَنَّهُ فِي سِبَاقِ الْمَارْثُونِ قَائِلًا : – حَصَلْتُ عَلَى خَبَرٍ ، خَبَرٍ مِنْ كَعْبِ الدِّسْتِ ، أَتَعَلَّمُ عِنْدَمَا أَقُومُ بِنَشْرِهِ عَلَى كَافَّةِ مَوَاقِعِ تَوَاصُلِ الْإِجْتِمَاعِيِّ وَعَلَى الصُّحُفِ وَالْمَجَلَّاتِ وَالْقَنَوَاتِ ، جَمِيعِ وَسَائِلِ الْإِعْلَامِ كَافَّةً ، سَيَرْتَفِعُ اسْمُ الْجَرِيدَةِ بِشَكْلٍ عَامٍّ وَاسْمِي تَحْدِيدًا بِشَكْلٍ خَاصٍّ ، وَيَنْتَشِرُ كَالنَّارِ فِي الْهَشِيمِ وَسَنَحْصُلُ عَلَى مَلَايِينِ الْإِعْجَابَاتِ وَ آلَافِ التَّعْلِيقَاتِ ، بِالْمُخْتَصَرِ سَيُصْبِحُ اسْمِي وَاسْمُ الْجَرِيدَةِ وَالْخَبَرُ تِرَنْدْ .

شَارَكَتْهُ فَرْحَتُهُ قُلْتُ لَهُ : – يَالَهُ مِنْ عَمَلٍ جَيِّدٍ ، أَتَمَنَّى لَكَ كُلَّ التَّوْفِيقِ .

وَمِنْ ثَمَّ جَلَسْتُ عَلَى مَكْتَبِي وَقُمْتُ بِاتِّصَالٍ هَاتِفِيٍّ مَعَ شَخْصِيَّةٍ مَرْمُوقَةٍ ، كَمُقَابَلَةٍ هَاتِفِيَّةٍ بَسِيطَةٍ ، وَأَدْلَى بِتَصْرِيحٍ لِلْجَرِيدَةِ ، شَعَرْتُ لِوَهْلَةٍ أَنَّ هَذَا التَّصْرِيحَ يُسْثِيرُ ضَجَّةً كَبِيرَةً عَلَى وَسَائِلِ الْإِعْلَامِ كَافَّةً .

سَارَعْتُ عَلَى اَلْفَوْرِ وَقَابَلْتُ اَلْمُدِيرَ لِنُنَاقِشَ هَذَا اَلتَّصْرِيحَ ، شَعَرْتُ لِوَهْلَةٍ بِالِانْبِهَارِ فِي عَيْنَيْهِ وَهُوَ يَقُولُ لِي : – هَذَا اَلتَّصْرِيحُ ، حَصْرِيٌّ لَنَا فَقَطْ ، أَيْ أَنَّكَ سَتَقُومُ بِنَشْرِهِ أَنْتَ مِنْ خِلَالِ صَحِيفَتِنَا قَبْلَ اَلْمَصَادِرِ اَلْأُخْرَى ، وَ هَذَا اَلتَّصْرِيحُ مُحْتَوَاهُ اِسْتِثْنَائِيٌّ ذَا أَهَمِّيَّةٍ وَ مُفَاجَأَةٍ لَا بَلْ حَتَّى إِثَارَةٍ أَيْضًا ! هَذَا اَلتَّصْرِيحُ مِنْ كَعْبِ اَلدُّسْتِ ، قُمْ بِنَشْرِهِ عَلَى اَلْفَوْرِ .

وَعَلَى الْفَوْرِ قُمْتُ بِنَشْرِهِ وَكَمَا تَوَقَّعْنَا أَحْدَثَ ضَجَّةً صَحَفِيَّةً كَبِيرَةً عَلَى وَسَائِلِ الْإِعْلَامِ كَافَّةً .

هَمَسْتُ فِي نَفْسِي ، هَلْ السَّبَبُ لِأَنَّنِي طَبَّقْتُ مَقُولَةَ أَذْهَبُ إِلَى عَمَلِكَ وَكَأَنَّكَ ذَاهِبٌ إِلَى مَوْعِدٍ غَرَامِيٍّ ، هَهْهَهَهَهَهْ أَنَا ذَهَبْتُ إِلَيْهِ وَكَأَنِّي مُشْتَاقٌ وَكُلِّي لَهْفَةٌ وَلَوْعَةٌ .

لَمَحْتْ سَاعَةُ الْحَائِطِ الْمُعَلَّقَةُ فِي الْمَكْتَبِ وَكَانَتْ قَدْ شَارَفَتْ عَلَى انْتِهَاءِ مَوْعِدِ الْعَمَلِ ، وَأَيْضًا شُعُورُ أَنَّكَ قَارَبْتَ عَلَى الِانْتِهَاءِ مِنْ الْعَمَلِ شُعُورٌ لَا يُوصَفُ ، شُعُورٌ مُتَخَبِّطٌ مَابَيْنَ لَذَّةِ الْإِنْجَازِ الَّتِي يَتْبَعُهَا فَرَحٌ وَرَاحَةٌ .

وَمَا أَنْ دَقَّتْ سَاعَةُ الصِّفْرِ ، حَتَّى سَارَعْتُ عَلَى الْفَوْرِ لِلْهُرُوبِ إِلَى الْبَيْتِ ، أَعْتَقِدُ لَا يُوجَدُ أَفْضَلُ مِنْ أَنْ امْتَلِكَ بَيْتًا خَاصًّا لِي بِمُفْرَدِي أُحِبُّهُ ، يَعْرِفُنِي وَأَعْرِفُهُ ، فَالْبُيُوتُ أَمَانُ أَصْحَابِهَا وَجُدْرَانُهَا هِيَ الْمَسَافَةُ الْآمِنَةُ لَنَا مِنْ هَذَا الْعَالَمِ .

وَبَيْنَمَا أَنَا فِي طَرِيقِي إِلَى الْبَيْتِ ، شَاهَدْتُ أُمٌّ تَقُومُ بِتَوْبِيخِ أَبْنِهَا عَلَى تَصَرُّفٍ غَيْرِ لَائِقٍ قَامَ بِهِ ، وَفِي الْجِهَةِ الْأُخْرَى أَطْفَالٌ بِعُمْرِ هَذَا الطِّفْلِ ، يَقِفُونَ مُلْتَفُّونَ حَوْلَ بَعْضِهِمْ الْبَعْضِ وَكَأَنَّهُمْ حَبْلٌ مُلْتَفٌّ حَوْلَ بَعْضِهِ الْبَعْضِ ، كَانُوا يَبْتَسِمُونَ خِلْسَةً وَيَتَهَافَتُونَ بِالْخِفْيَةِ وَيَقُولُونَ : – أَكَلَ قَتْلَهُ مِنْ كَعْبِ الدُّسْتِ وَيَتَضَاحَكُونَ .

وَمَا أَنْ وَصَلْتُ الْمَنْزِلَ ، كَانَ صَوْتُ التَّطْبِيقِ الْفُلَانِيِّ يَتَّصِلُ ، كَانَ وَالِدِي أَجَبْتُهُ عَلَى الْفَوْرِ وَسَأَلَنِي : كَيْفَ كَانَ يَوْمُكَ ؟

قُلْتُ لَهُ ضَاحِكًا : يَوْمٌ مِنْ كَعْبِ الدُّسْتِ .

نَظَرَ إِلَيَّ وَقَالَ : أَتَعْلَمُ مَا مَعْنَاهَا ” كَعْبُ الدُّسْتِ ” ؟

قُلْتُ لَهُ مُسْتَغْرِبًا : – لَا !

قَالَ : – سَأَرْوِي لَكَ قِصَّةَ كَعْبِ الدُّسْتِ .

الْقَاوَرْمَا : هِيَ مِنْ أَشْهَى الْمَأْكُولَاتِ الشَّعْبِيَّةِ وَ هِيَ اخْتِرَاعٌ شَعْبِيٌّ لِحِفْظِ اللَّحْمِ مُدَّةً طَوِيلَةً وَلَا سِيَّمَا فِي فَصْلِ الشِّتَاءِ وَذَلِكَ قَبْلَ عَهْدِ الْبَرَّادَاتِ الْكَهْرَبَائِيَّةِ .

وَكَانُوا يَصْنَعُونَ الْقَاوَرْمَا وَهِيَ قِطَعٌ مِنْ الْهَبَرِ مَطْبُوخَةٌ بِالدَّهْنِ فِي دُسْتٍ كَبِيرٍ ثُمَّ يُعَبِّئُونَهَا بَعْدَ طَبْخِهَا فِي ( نَعَائِرَ ) أَيْ آنِيَةٍ كَبِيرَةٍ مِنْ الْفَخَّارِ فَتَبْقَى صَالِحَةً لِلْأَكْلِ طَوَالَ فَصْلِ الشِّتَاءِ .

وَلِمَّا كَانَ الْهَبْرُ وَهُوَ أَطْيَبُ وَأَثْمَنُ مِنْ الدُّهْنِ يَرْسُبُ فِي كَعْبِ الدِّسْتِ عِنْدَ طَبْخِهِ لِذَلِكَ كَانَ الْقَرَوِيُّ إِذَا تَكَلَّمَ عَنْ جَوْدَةِ مَا عِنْدَهُ مِنْ الْقَاوَرْمَا يَقُولُ أَنَّهَا : مِنْ كَعْبِ الدُّسْتِ أَيْ أَنَّ كَمِّيَّةَ الْهَبْرِ فِيهَا أَكْثَرُ مِنْ كَمِّيَّةِ الدُّهْنِ .

ثُمَّ صِرْنَا نَسْتَعِيرُ كَعْبَ الدِّسْتِ فِي كَلَامِنَا عَنْ الْمَأْثُورَاتِ الشَّعْبِيَّةِ كَقَوْلِنَا : حِكَايَةٌ مِنْ كَعْبِ الدِّسْتِ أَوْ خَبَرِيَّةٌ مِنْ كَعْبِ الدِّسْتِ أَوْ تَصْرِيحٌ مِنْ كَعْبِ الدِّسْتِ أَوْ ” قَتْ . لَةً مِنْ كَعْبِ الدِّسْتِ ” وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ

أَيْ أَنَّهَا فَخْمَةٌ أَوْ كَبِيرَةٌ أَوْ عَظِيمَةٌ أَوْ مُتْقِنَةٌ إِلَخْ . . .

وَأَنْتُمْ مَا رَأْيُكُمْ ؟ هَلْ الْمَقَالُ مِنْ كَعْبِ الدِّسْتِ أَمْ مَاذَا ! ؟

لقراءة المزيد من مقالاتي تفضلوا بزيارة مدونتي :

https://www.liakunjilisk.com

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى