
الحرية والوطنية
في رواية الأديب مصطفى لطفي المنفلوطي وعنوانها : ” في سبيل التاج ” وردت القصة التالية وأقتبس :
” في القرن الرابع عشر أغارت الدولة العثمانية على الشعوب البلقانية تريد افتتاحها والاستيلاء عليها، فدافعت الثانية عن نفسها دفاعا مجيدا حتى غُلبت على أمرها وسقطت في يد القوة القاهرة، فعزلوا ملكها وعينوا مكانه ملكا اسمه ” ميلوش “.
لبثت الدولة عهدا طويلا تحت حكم الأتراك، وعانت فيه من ضروب الذل والهوان ما يعاني كل شعب مغلوب على أمره، إلى أن قيض الله لهم أحد رجال الدين المخلصين وهو الأسقف ” أتين “. الذي استنهض همم الرجال للدفاع عن وطنهم وتحرير بلادهم من يد ذلك القاهر المغتصب.
أشار الأسقف أتين على الملك أن يخلع طاعة الترك، ويمتنع عن دفع الجزية والأتاوة وينادي بحرية البلقان واستقراه. فجبن الملك في أول الأمر لكنه أذعن لرأيه فيما بعد وفعل ما أشار به عليه. غضب الأتراك ووجهوا جيشا عظيما بقيادة أرطوغرل باشا لمحاربة البلقان. فثار البلقانيون للذود عن وطنهم واختاروا لقيادة جيشهم القائد البلغاري الأمير ميشيل برانكومير، والذي حارب الجيش التركي عدة أعوام ومنعه من اجتياز الحدود.
مات ملك البلقان ميلوش وعقدت الجمعية الوطنية اجتماعا لاختيار من يخلفه على العرش. فانقسم الناس إلى فريقين، فريق يرى اختيار الأسقف أتين وفريق يرى اختيار القائد برانكومير. فقال الجندي الروماني ” أورش ” وهو من أشياع الأسقف وأنصاره : نعم إن النصر قد تم لنا على يد قائدنا العظيم برانكومير، ولكن من الذي مهد له النصر، وأعد له عدته قبل أن يعقد اللواء له على الجيش، أليس الأسقف أتين ؟
من الذي ينكر أن ذلك الرجل التقي الصالح، هو الذي طاف البلاد من أقصاها إلى أقصاها عشرة أعوام كاملة، يستنهض الهمم ويستثير حفائظ النفوس، ويستحيي ميّت العزائم، ويهيّج عاطفة الثأر والانتقام، في نفوس الرجال والنساء والفتيان والفتيات، ويلقي على تلاميذ المدارس في مدارسهم، أناشيد الحرية والوطنية، فيستظهرونها مع دروسها ويتغنون بها في مسارحهم وملاعبهم ومُغداهم ومراحهم ؟
من الذي ينكر أنه هو الذي علم الشعب البلقاني دروس الوطنية الشريفة العالية، وغرس في قلوبهم أن الحياة الذليلة خير منها الموت الزؤام، وأن الحرية حياة الأمم وروحها، والرقّ موتها وفناؤها، وأن الأمة التي ترضى بضياع حريتها واستقلالها، وتقبل أن تضع يدها في يد غاصبها، إنما هي أحط الأمم وأدناها وأحقها بالزوال والفناء ؟
من منا يجهل أنه هو الذي استطاع وحده من بين أبناء البلقان أن يقف أمام مَلِكه وقفة الأسد الهصور، ويصيح في وجهه قائلا له : حتى متى أيها الملك الضعيف، المهين، تبيع وطنك وأبنائه لأعدائك وأعدائه، بيع السلع المعروضة في حوانيت التجار بأبخس الأثمان وأدناها، وإلإمَ تضع هذه السلاسل والأغلال في أعناق أبناء أمتك، لتقودهم بها إلى حيث يمرّغون جباههم الشريفة، تحت موطئ أقدام ذلك العدو المغتصب صاغرين ضارعين، ثم تزعم بعد ذلك أنك ملك عظيم جالس على عرش شريف، ولو حققت أمرك لعلمت أنك نخاس دنيء يبيع الرقيق في سوق النخاسة. بل أدنى من نخاس، لأن النخاس لا يتاجر في أبناء أمته ولا أفراد أسرته !
فاهتز الملك لكلمته هذه اهتزاز القصبة الجوفاء بين مهاب الرياح، وطأطأ لها رأسه إجلالا وإعظاما، ولم يلبث أن عزم عزمته الشريفة التي ترونها اليوم، والتي أنقذت الوطن من العار ورفعته إلى ذروة المجد والفخار “. انتهى الاقتباس.
* * *
التعليق : تمر الأمم في تاريخها بعهود من التراجع الضعف والاستكانة للمستعمر الغاصب، ولكن يأبى التاريخ إلا أن يجود بزعيم وطني في مرحلة معينة، يستنهض الأمة ويفيقها من سباتها، لكي تثور على الخنوع والضعف، وتسترد كرامتها وحريتها من أيدي المغتصبين . . !


