
الانتخابات والمال الأسود
مصطفى توفيق أبو رمان
منذ استئناف الديمقراطية الأردنية لمسيرتها المباركة، وعودة الحياة لمجلس النواب في العام 1989، ارتبطت الانتخابات المؤهلة لدخول الفائزين فيها نواباً تحت قبة البرلمان، بالمال الأسود، وبشراء الذمم وسيلة مخجلة غير قانونية لوصول بعض الطامعين بالمقعد السحري إلى غايتهم وحلمهم المنشود.
هذه الوسيلة المؤسفة وغير النبيلة، تنتشر بحسب الظروف الاقتصادية للدوائر الانتخابية، فتزيد في المناطق الأشد فقراً، والأكثر عشوائية، وأحياناً في المناطق الأقل حظاً في التعليم وزيادة جرعة المعرفة والثقافة وتمثل شروط الحياة المدينية القويمة اللائقة.
لهذه الأسباب وغيرها فإنني أربأ أن يرتبط موضوع شراء الذمم والأصوات بمناطق دون غيرها، وحتى أكون أكثر وضوحاً وصراحة، فإنه بالنسبة لانتخابات البلقاء المنطقة التي أنتمي لها وجدانياً وانتخابياً، وهي جذوري وأهلي وعزوتي، فإن هذا الأمر غير المحبب ارتبط بمنطقتين أكثر من باقي مناطق المحافظة: مخيم البقعة والأغوار، هذا لا يعني أن الدفع غير موجود في باقي مناطق المحافظة، ولكن، وللأسف الشديد، يروّج عن انتشاره في هاتين المنطقتين أكثر من غيرهما.
ومما يؤسف في هذا الأمر أن المنطقتين أكبر وأشرف وأرفع من هكذا تهمة معيبة، وأن فيهما من الأخيار والرجال الرجال، ما يشرف أبناء الوطن من شماله إلى جنوبه، ومن شرقه إلى غربه، وفيهما المتعلمون وأصحاب المراتب الرفيعة علماً ودرجات أكاديمية ومكانة وأخلاقاً ورجال مال وأعمال ودين ومواقف وتمسكاً بالعادات والتقاليد.
وإن كان قلة من أبناء هذه المناطق ممن تضيق بهم سبل العيش، ويعانون شظف اللقمة، قد ينزلقون لهكذا وسائل لجني بعض المال، فإن هذا لا يعني تعميم هذه الصفة غير المستساغة، ومن العيب، بالتالي، أن يتبجح بعض المرشحين أنهم اشتروا نصف أصوات الغور، أو كل أصوات البقعة..
هذا كلام لا يليق، ولا يصح، وعيب على شرفه كل من يدعي ذلك ويعلنه ويتفاخر به في كل مناسبة وأمام من يسوى ومن لا يسوى. وإني على ثقة مطلقة أن الأشراف في الأغوار وفي مخيم البقعة الغالي على قلوبنا جميعنا لا يقبلون بهذا الكلام، ولا يسمحون به، ولو أتيح لهم وقف عمليات شراء الأصوات (إن كانت فعلاً موجودة) فلن يترددوا بفعل ذلك، ولن يخجلوا ممن تدفعه ظروف معينة لبيع صوته من أبناء مخيمهم أو أبناء غورهم إلى ردعه، وإيقافه عند حده، وحضه على الترفع والزهد، فالحرة تجوع ولا تأكل بثدييها، والحر يجوع ولا يبيع صوته وخياره وموقفه وحقه الانتخابي الذي ضمنه له الدستور.
لا تنتخبوا من يأتي لشراء أصواتكم، لأنه أولاً يسيء لكم، ولنفسه، وهو لن يكون أهلاً لمقعد نيابيّ تشريعيّ، ولن يكون أهلاً للدفاع لا عن الأردن ولا عن فلسطين. هو مرشح فساد، يعتمده وسيلة ويقتات منه، ويراكم ثروته من ورائه. وإن الأجندات المرعبة التي يشاع أنها مرتبطة بالمجلس المقبل على وجه التحديد، تفرض علينا أن نكون يقظين بمن نختارهم كي يمثلوننا، وأن نكون حذرين وصارمين وجنوداً أوفياء لوطننا أولاً، ولفلسطين أولاً وثانياً، ولتجربتنا الديمقراطية، ولسلطاتنا، خصوصاً سلطتنا التشريعية الأهم والأخطر، والأكثر تمثيلاً للناس وتطلعاتهم وأحلامهم وخطوطهم الحمراء.
إن من ينظر للبقعة وللأغوار على أنهما بازار أصوات، هو شخص لم يعاني معاناة أهل المخيم، ولم تلسعه شمس الغور الحارقة، وليس لديه فكرة كيف يتدبر الناس لقمة عيشهم لا هنا ولا هناك، وكيف يبذرون بذورهم ومن ثم يتطلعون نحو السماء سائلين الله المطر والخير والبركات، وكيف يشدون على بطونهم، ويعضون على حاجاتهم، ويقيمون آناء الليل وأطراف النهار صلوات الصبر والرضا.
الحكومة تتحمل مسؤولية قصوى في ملاحقة المال الأسود، سواء أثناء الحملة الانتخابية، أو في المؤسسات والقطاعات والمشاريع والمناقصات، وهي مسؤولية لا تتراجع بالتقادم، ولا تقام على أسس الفقوس والخيار، ولا تدخل في أبواب العفو العام ولا الخاص، هذا مال الشعب، وهذه حقوق الناس، وتلك آفة الآفات، وجريمة الجرائم، وتهلكة المهالك.
لن يقبل أهلنا في مخيم البقعة، ولا أهلنا في الأغوار، هذه الوصمة، ولو سمعوا بعض ما يجري تداوله فإن غضباً كريماً حُرّاً أبياً سوف يجتاحهم، وسوف يهبون لتغيير تلك الفكرة غير المحببة ولا المقبولة، هم لن يقبلوها لأنفسهم قبل أن يرفضها أي أحد غيرهم.
إن من يسعى للفوز بأي طريقة، حتى لو عن طريق شراء الذمم، هو شخص قد يبيع وطنه، وهو مروّج مفضوح للفساد وللمال الأسود، وهو شخص غير مؤهل للدفاع عن حقوق الناس، ولتلبية مطالبهم والشعور بحاجاتهم. وهو عار على نفسه ومنطقته ووطنه وأمته.
اللهم إني قد بلغت… اللهم فاشهد.