تحية الى الشاعر زياد العناني

صائد القصيدة

عبدالله أبو بكر

يصوّب عينيه كسهم لا يخطئ صدر الفريسة وإن كانت بعيدة، فهو الشاعر الرائي، الباحث في الكون عما يكمل المعنى، المنشغل بكل التفاصيل الصغيرة قبل الكبيرة، الهائم في كل وادٍ فيه يمكن للقصيدة أن تكون، الناظر إلى الأشياء بعين ترى ما وراءها وأمامها، لتكون أقرب منها إليها.
هو الكثير بذاته، قناص الفكرة البكر، في قميصه رائحة القهوة الأولى، وبكفّيه الصغيرتين، يحمل الصحراء، تلك التي ولدته وفي فمه ملعقة من شعر.
ليلهُ لا ينام، ونهاره استراحة محارب أمضى الليل وهو يحرس قافلة الكلام وحدس العبارة.
ما كان لقصيدته أن تصمت وهي المطلّة من شرفة القول، تلملم الهديل وتسير واثقة مثل سماء ثانية. قصيدته التي قالت إن الشعراء:
“لطالما توقفوا عند سماحة الأخضر واستغربوا
كيف ظلت الأشجار المتنازعة على الضوء
طويلةَ البال
لم تدخل في فجوة السلاح
ولم تقتل ولم تمارس غيظها
لطالما توقفوا وقالوا:
ما من شجرة خانت أو قامت بقتل شجيرة أخرى
ما من سروة استأثرت بالنهر كله
ما من زيتونة تآمرت مع الحطاب وفأسه
ما من رمانة مالت بثمارها نحو أناس دون غيرهم أبداً أبدا
ما من سنديانة
وقفت في السوق وباعت نفسها”.
زياد العناني.. شاعر القصيدة التي تشاكس الماء، لترسم عليه صورها، وتوْقِع في كمائنها الجمال، تنتشل الحقيقة من بئر الشك، لتروي عطش الرؤيا. شاعر القصيدة التي ابتهجت بزهوهِ، وهو يدور حول الأرض ليصل إلى ركنها القصيّ الذي لا يسكنه سوى الشعراء.. القصيدة الشجرة طويلة البال التي لم تقتل شجيرة أخرى، ولم تستأثر بالنهر كله، ولم تتآمر مع الحطاب وفأسه.
زياد.. كنتَ كما وصفتُكَ قبل الآن.. تقاتل زمنك بسلاح لا يعرفه هو، لتلون الحزن الداكن بلون الفرح المبتلّ بالبسمات، تغار على القصيدة من شوائب الزمن والقول الجامد الذي لا يحركه النسيم ولا تحمله الوردة. تنظر ببريق عينيك وهما تتحدثان بالنيابة عن أصغريك الكبيرين؛ قلبك ولسانك.
“كيف للمرض أن يهزم الشاعر”، قلتَها لي عندما تسللت بعض الآلام إليّ، وقد شاءت الأيام الآن، أن أعيدها لك، وأنت تعدّ نفسك من جديد لتكمل رحلتك إلى سدرة المعنى.. فهل للشعراء أن يرقدوا على سرير الغياب؟ وهل لهم أن يترجلوا عن صهوة الكون، ويستبدلوا الصمت بالصهيل؟
لست أنتظر الإجابة منك هنا، لأن هذه الأسئلة لا أوجهها لك أنت، بل لمن ظن وراوده الشك في أن تُهزم بنزالك مع المرض، فكان كل ظنه إثماً.
هناك أيضا من انتشل اليقين من حفرة الشك ليرى الحقيقة واضحة أمام عينيه، الحقيقة التي كانت تؤكد أنك العائد من كل نزال منتصراً عليه. أول من قال لي عندما سمعت خبر دخولك إلى المشفى إثر تعرضك للحادثة: “زياد سيعود.. لن يقبل بالهزيمة أبدا”، كان الشاعر باسل رفايعة، قالها واثقا كما لو أنه كان يراك بعد شهرين من تلك الحادثة وأنت تقهر مرضك. فهل تُراها ثقة الصديق بالصديق؟
هي كذلك حتما.. لأن وعد باسل أصبح اليوم حقيقة.. وها أنت تشد الطريق وتطوي المسافة الفاصلة ما بيننا، وتلقي بقلبك من جديد في صدورنا..
عد الآنَ، وحدقّ في كلّ ساكن كي تغريه الحركة، لا نريد للأشياء من حولنا أن تبقى ثابتة فتقع في حفرة الجمود.. ألم تقل:
“كلما حدقتُ بثابتٍ
تحرّكَ ومشى
حتى التماثيل اللعينة
صارت تركضُ في متاعبي”.
لكنها الآن، لن تركض إلا في بساتين فرحتك التي ستورق من جديد بهجةً بعودتك.
لا أملك إلا أن أراك شاعراً يسخر من الهزيمة، ويبتسم بوجه النهار ليستجمع في قصيدته غناء الطيور في مطلع الفجر.. لا أملك إلا أن أقول:
يا صاحبي ..
أولن تعود ..
هيا استفقْ من حلمنا
وتعالَ “نعدو كالغزالةِ ” في ميادين القصيدةِ
ثمّ نسخرُ من خرافاتِ الغِيابْ..
يا صاحبي
هيا استفق
واملأ كؤوسكَ من دمي..
عند الإيابْ.

يسمّي الخراب

مهند السبتي

في “زهو الفاعل” لا يقبل الشاعر زياد العناني بفعل الإشارة إلى حيث انكسرت شجرةُ الأمنيات، وانفضّ جمع البنّائين، فهو لا يخشى من الاعتراف والتظلّم من انكسار الذاتِ بيد الآخر كما يقول “شعرا”:
“ونمنا ونحن ندير ظهورنا،
منكسرين مثل عينٍ،
يتمطى الخوف مع الفضيحة في أعصابها”.
ولا يتردد العناني في الإعلان عن خيبة الإنسان وسقوط مجده الجمعيّ والشخصيّ، حيث يختار أن يُتعِبَ قلبَهُ في تسمية الندوب والعيون والأيدي التي أَوقَدَت، أحرَقَت، وأَطفأَت أيضا، ولا ينسى أن يذكُرَ اعتلالات المتكلم ذاته، أخطاءَه، وخساراته، بل يذهب ويلقي نظرة على البقايا، حيث شاهدة القبر التي تشير إلى مكانِ مَنْ يعرف، وفي الآن نفسه قد لا تكون هي هي راقدة هناك، كما في قوله:
“قبرُ من هذا الذي يُطلّ بشاهده،
من بين الأعشاب،
ربما هو قبرها،
ربما نام أكثر من أبدٍ،
وربما رحَلَتْ ولم تعد نائمةً كما تركتها”.
هناك خطابٌ يؤطّر الكثيرَ من نصوصِ هذه المجموعةِ الشعرية، هو خطابُ السلطة، حيث لا تغفل عينُ القارئ عن هذه المخاطبةِ الناقدةِ المتألّمةِ المعلنة، ويبدو أنها كانت حاضرة ومدفوعة في نفس الشاعر، على هيئة موجات لم تهدأ عن التكلم والبحث عن أسباب خساراتها في ظل خطاب السلطة:
“في السجن تنحصرُ الدولةُ
في بابٍ يئنّ”
ليكمل:
“في السجن تنحني الدولةُ،
حتى تلامسَ الأرض”.
وهو أيضا يقرُّ بقدرة هذه السلطة، بتأويلاتها وأسمائها التي يمكن أن نحددها ونطْلقها على السواء، إذ يقول:
“تستطيعُ دائماً أن تفتحَ الجرحَ،
مثل بابٍ قديمٍ،
تستطيع أن تُخرِجَ النسوةَ مني أرامل،
وجهاتِ كيدٍ،
تستطيعُ أن تأخذَ كلَّ شيء،
وتحتفظ به لمجرد ذكرى”.
وهو لا يذعن للثابت قبل أن يجرّب ويشكّ، فهذه الثوابت سرعان ما تخذله وتثير فيه القلق:
“لا أستطيعُ أن أجزمَ بأيّ شيء،
كلما حدّقتُ بثابتٍ
تحرّكَ ومشى،
حتى التماثيلُ اللعينةُ،
صارت تركضُ في متاعبي”.
حتى البيتُ واهبُ الراحةِ لا يريدنا الشاعر أن نطمئنَّ له:
“البيتْ،
من هو البيتْ،
حين نفكّر فيه،
كأسْرةٍ محروسةٍ بالدعوات،
ثمّ يصدمنا الفراغ”.
رغم أن مفردات الانكسار والخسارة، التعب والخدر، والكثير من زفرات العائدين من حيث لم يجدوا، رغم أحلامهم التي وُعِدوا بها وبتحقيقها، ورغم المرارة التي يعلن عنها إنسان “العناني” في مجموعته “زهو الفاعل”، إلا أنه وعلى أي شكلٍ أحالته التقلّبات والمصائر، لا يكلّ عن التجلّد وتعزيز ذاته:
“ذئباً كنتُ في ما مضى،
وأخيراً صرتُ على هيئة جبلٍ،
تلوذُ بين أقدامه رخاوةُ الجبال”.
وهو يعترف بمحاولة الآخر أن يُعمِلَ في تكوينه، وبما أجابت عليه فطرتُه:
“فاجأني جسمي،
الذي أخذوهُ إلى المسجدِ،
بعودتهِ إلى السرير”.
ليخاطب ذلك المتحكّمَ أو المتسلّطَ على رغباته،ِ منادياً إياهُ بـ”الأب”، دالاًّ على قربهِ ومكانتهِ التراتبيّةِ، ورافضاً كلّ أشكال التحكم في مصيره كأنه الدميةُ في يد الطفل، ليجيء هذا الرفض بصورة إنسانية تشكو التعب، كنتيجةٍ للقتال والنزاع الدائمين على ذاته:
“يا أبي الغامض،
ويا محرّك الدمى،
بي رغبةٌ لأن أجلسَ في ذهانِ أيّ مصحةٍ،
وأقول: تعبت”.
كذلك، فإن هذا الإنسان الذي يفيض تعباً، ها هو يقول: “لا بأس عليّ إن طال الليل”، ، ويعلنُ قدرته على تبديل وجه الحياة، بما يليق بحرّيتِها والنحتِ البديع في تضاريسها:
“لديّ الكثيرُ مِن المرارةِ،
ولديَّ الكثيرُ من حبر المجازِ،
وأستطيعُ أن أبدل وجه الحياةِ،
برقصةِ امراةٍ أو بلمسةِ فرشاة”.

كريمٌ على الوقت..

أحمد يهوى

كن كريماً على الوقت
لك حنطتك، وإن أصبحت طعاماً للمنازل المهجورة.
لتكن لك بحيرة حبك العذبة، مأوى الغزلان رشيقة العينين.
وليكن أمامك صوتك النحيل
ولتبتلع خرزات نبوءتك..
قيل لك كذلك: إنك لستَ بحاجة لقدمي الهزالة واللحم
فهما جاسوستان تعضّهما الأرض
امْشِ على قدمَيّ القصيدة
إنهما ناصعتان
وتمضغان تبرَ السماء
هربٌ من طرف الحياة نحو عَرَضها
هو الشعر
ينكتب حيث لا قُبلة تصل إلى البال سالمة
وحين تنكسر الفأس التي تحطب أشجار الخراب
يصير فأساً خفيفة
فاكتب الشعر
قيل لك أيضاً: واشترِ بأحرفك الراهبات نجومي.

غرق البحر مرة..
وطلب المساعدة من رمال شاطئه
وأسماكه التي سلّمها النهر جواريَ عابسات للبحر
غرق البحر مرة
في قلب شاعرٍ
كان يرغي مشروب في فمه
وهو يحصي كم امرأة عرفها
كان الجنوحُ إلى جسمها.. تَقْوى
“هل لديك القليل من الحرص على الحب؟”.
سألني زياد.
– لدي الكثير.
– إذن لا تكن حزام خصر واحد
وكن خائناً للحمام كما الشمس
حتى تظل الحمامات تؤوب في كل يوم إلى صدرك.
– إنما الحب يعني الوفاء.
– إنما الحب يعني الأرق.
ووقوفك في ظل كرمة دون انتظار العنب
فلتكن هزلاً دائخاً في الشوارع
خيرا من أن تصير عاشقاً عذرياً
واسرق غيمات الآخرين
ولا تقل لغيماتك عن سرك: “لا تَبُح”
ولا تؤوي في قلبك غيمةً تحرمك أمطارها
ولا تهزأ بغيوم الصيف
ولا تنخدع بالغيمة الكثيفة
ولا تدع غيمتك تعرف على أي أرض فيك تمطر
ولا تحدّث غيماتك عن عطشك
ولا تنكر حبك للبلل
ولا تشفق على من لا غيمة له
ولا تَقْسُ عليه.

ثم اتبع..
وإن متَّ من أجل غيمة..
إنْ ربحَ قلبُك تعبَهُ بها
فَبِعْ لأجلها ما استطعتَ من الغيم
وادخل تحت نابَي الحب
كي تلتطم في هبائك.

زياد..
كان فتى شيق القلب والبال
له حبة رمان مخبئة في كل جبل
وضحكة تشع
تمسك كل عصفورة بشيء منها
ووطن أكبر من مجلس السلطان
وحدقةُ عينٍ ترى الحقيقة كالحةً
دون الكحول.
كانت فوهة زياد لإعدام ذهنه دائم القفز.

زياد كان استقام
بقامته القصيرة كأنها قامة محارب عنيد
رفع زنده الخضراء
وطرق باب الموت لكي يلطمه على قتل طفلةٍ ما
فصرعه.. وها هو الآن يمسح جسده المئذني
من دم الموت السام.
زياد…قم، فأمطر
ما من خيار سواه أمامك.

التوقيعة مع مرتبة الشَّرف

خلدون عبد اللطيف

في واحدة من قصائده القصيرة والمسكونة بالمرارة والسخرية، يقول زياد العناني:
“أُمي دوخها السكَّرُ
بتروا قدميها
أُمي
أُمي
أُمي
ماذا عني
كيفَ سأبحثُ عن جنةِ ما قالوا
تحتَ الأقدام؟”.
هذا النَّص الشعري، الذي تتراصف الكلمات بمنطقيةٍ في كل سطرٍ من سطوره مولِّدةً حركات إيقاعية يُعزِّزها التكرار، يصلحُ لأن يكون مدخلاً للكلام على التوقيعة أو قصيدة التوقيعة التي تحيل إلى شكلٍ حديث من أشكال الكتابة الشعرية، سواء كان من جنس الشعر الموزون (عمود/ تفعيلة) أم قصيدة النثر، يضرب جذوره الاشتقاقية عميقاً في موروث “التوقيعات” التي تعدُّ ضرباً كتابياً مستقلاً من ضروب النثر العربي، عُرفَ منذ مطلع الخلافة الراشدية وازدهرَ في العصر الأموي، قبل أن يبلغ أوجه في العصر العباسي حيث تطورت غاياته ودلالاته ضمن سياق ما يقوم الخلفاء ورجال الدولة والقادة بتوجيهه في رسائلهم وخطاباتهم الرَّسمية، ويمتاز بالإيجاز والتكثيف الشديدين بعيداً عن الحشو، وبما لا يضرُّ أو يخلُّ بالمعنى المُراد.
هذا إلى جانب استفادة قصيدة التوقيعة من الأنماط الشعرية القصيرة في التراث العالمي، وأبرزها “التانكا” و”الهايكو” اللذان يُعدَّان من أشهر تقاليد الكتابة في الشِّعر الياباني، إذ يمتاز الأول بتناوله لموضوعات المكان والطبيعة وجريان الحياة اليومية والمناسبات بشقَّيها: الخاص والعام، وتتكون قصيدته من 31 مقطعاً صوتياً. أما الثاني، فهو أحدَثُ نسبياً من الأول، ويمتاز بأن قصيدته قصيرة يتراوح طولها ما بين 3 إلى 4 سطور، كما يتوخى التماهي في الطبيعة بشعورٍ صادق، وعاطفة شفيفة، ولغة وَصفيَّة يغلب عليها التأمل والتكثيف.
من هذه اللمحة العامة والتمهيدية، يمكن الذهاب بالقول إلى أن قصيدة التوقيعة أشبه ما تكون بخليطٍ أجناسيٍّ تولَّدت منه مَقطوعةٌ شعرية وامضةٌ ومُحدَّدةُ الخصائص، يُعرِّفها واضعها الشاعر د.عز الدين المناصرة في كتابه “إشكاليات قصيدة النثر”، بأنها “قصيدة قصيرة مكثفة تتضمن حالة مفارقة شعرية إدهاشية، ولها ختام مدهش مفتوح، أو قاطع، أو حاسم، وقد تكون قصيدة طويلة إلى حد معين، وقد تكون قصيدة توقيعة إذا التزمت الكثافة، والمفارقة، والومضة، والقفلة المتقنة المدهشة”.
ويُشار في هذا المقام إلى أن المناصرة أول من استخدم مصطلح “التوقيعة” في العام 1964 عبر قصيدته “توقيعات”، وهو ما يميزه عن سواه ممن أقبلوا بعد ذلك على كتابة قصائدهم في هذا الحقل، بمعنى أنَّ الغالبية في ذلك الوقت لم تَتنبَّه -على الأغلب- إلى وجود تأصيلٍ سابقٍ يُحَدِّدُ الملامح العامة للتوقيعة قديماً وحديثاً، ولم تتجاوز النَّظرة إليها لدى بعضهم حدود عدِّها طرحاً شعرياً على مستوى الشَّكل أكثر من كونه محاولةً لتجديد القصيدة العربية، فيما اشتغل المناصرة بعد ذلك الحين على صوغ خصائصها، وإبراز ما تنطوي عليه من تمايزات جمالية وشعريَّة.
عوداً إلى زياد العناني الذي يعدُّ أحَدَ كتَّاب قصيدة النثر ممَّن خاضوا غمار كتابة “التوقيعة” الحديثة وأبدعوا فيها، إلى جانب كتابة قصائد نثر طويلة وأخرى قصيرة لا تلتزم شروط التوقيعة ولا تندرج تحتها، بيد أَنَّ ما يميزه ضمن هذا الإطار إيلاؤه “التوقيعة” اهتماماً خاصاً في كتاباته من خلال تقديم نماذج شعرية عميقة ومركبة لا تَكفُّ عن قلق التساؤل، وتتلازم فيها الصورة الشعرية مع اللغة الرشيقة من دون ابتذال. كما تفرَّد عن أقرانه الشعراء خلال السنوات الأخيرة في ارتباطه الوثيق بهذا الشَّكل الشِّعري الذي يتطلب موهبة في استغلال اللغة وتوظيف العناصر الدرامية، ودربةً على رصد التفاصيل الدقيقة والتقاط الأشياءِ بذكاء من محيطها الهامشي والمأزوم لكي تنتظم في القصيدة بامتيازها الشِّعري قبل كل شيء، وطاقتها التخييلية القادرة على مفاجئة القارئ واستنهاض حواسه وأسئلته المشروعة:
“كلُّ ما قاله القائد
ليس صحيحاً
الشجرة ليست أُمّ الكرسي
أيها الكاذب..
إن كان للكرسي أمّ
فأين أبوه!”.
إِنَّ قصيدة التوقيعة، التي تتوافر فيها عناصر التكثيف الدلالي والإدهاش الشعري والقفلة المباغتة أو الصادمة، تندغمُ وتتقاطع في بعض خصائصها مع قصيدة النثر التي تَواتَر التنظير لها، وهي خصائص قد يُقيَّضَ لها أن تصل إلى مرتبة الاشتراطات لكي تكتمل المعادلة، والتي نرى أن أهمَّها –مستعيرين من سوزان برنار– يتمثل في فكرة “الخلق الإرادي”، بحيث “تفترض إرادة واعية للانتظام في قصيدة”، وهذا “الخلق الإرادي” هو جَوهرُ ما ينسحب على تجربة العناني في كتابة قصيدة التوقيعة، فمن الملاحَظ أنه غازلها بإرادة واعية، من دون أن يغرب عن باله ما تختزنه من طاقةٍ إنفجاريةٍ وتأثيرٍ له مفعول السِّحر.
ومن خلال مراجعةٍ استقرائية لمجاميعه الشعرية منذ “خزانة الأسف” (2000) حتى “زهو الفاعل” (2009) نَخلصُ إلى وجود هيمنة نسبية لهذا الشّكل الشعري على مجمل كتابات العناني، بحيث ارتكن إليه عن سابق إصرارٍ وإخلاص، وهو الأمر الذي دَفعه إلى مواصلة البحث بإرادةٍ خلاقةٍ -ومَكرٍ ربَّما- عن لغةٍ مُغايرة لا تقليدية، تنأى عن القوالب الجاهزة، وتستمدُّ انزياحاتها وبلاغتها من جذورها المطلقة، كما تختمر فيها شحنات التَّمرُّد، لكنها في الوقت نفسه لغةٌ تَنهلُ من الواقع، لا تتعمَّد المداورة ولا تقطع صلتها الوثيقة والمَحمومة بالقارئ.
على الصعيد نفسه، فلعلّ ما يميز “التوقيعة” لدى العناني أنها مسكونة بدرجات متفاوتة من الغنائية رغم كونها من جنس قصيدة النثر، وهو أمرٌ يمكن ردُّه إلى مرجعية الإيقاع لدى العناني بحكم اتصاله بموروث الشِّعر العربي الذي يتغلغل لا شعورياً في سياق الكتابة الشعرية عبر التاريخ.
كما تحفلُ توقيعته بتفاصيل شخصية لمكابدات “الأنا” المتوترة واحتجاجاتها على العالم في لحظته الرَّاهنة، وذلك عبر انطلاقها من خصوصياته الفردية المرتبطة بالهَمِّ البشريِّ، ووقوفها على خطوط الرَّفض والمواجهة الإنسانية نفسها:
“قضى العمر
وهو يعبُّ من نشواتها
التي تُذْهب العقل..
وحين صحا
تذكر أن الزوجة التي طلّقها
تزوجت..
وأن الابن
صار أباً له..
وأن البيت مجرد زاوية
عمياء..
وأن الدولة
حرمته من التأمين الصحي..
فبكى
ثم تبسّم..
على هيئة جرحٍ
وطنيّ”.
من هنا، تمضي توقيعة العناني إلى ما هو أبعد من كونها شكلاً شعرياً جامداً، إذ استطاعت تكريس حضورها في المشهد الشعري المحلي والعربي بما تحمله من نكهة وخصوصية تشبه البصمة الشعرية. كما أنها كتابةٌ مركبَّة ومُقطَّرة تؤلف عبر عناصر تناسقية بين الحسِّي والمعنوي، الوجود ونقيضه، الأنا والمجموع، راصدةً التحولات اليومية وانفعالاتها في المراكز والهوامش الإنسانية بعينيَّ شاعرٍ لا يَقبل المساومة، وقلبِ عصفورٍ يخفق بالحرية وينتمي إليها.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى