كيف أحبطت المخابرات التركية خطة التمويه السعودية في جريمة القنصلية؟

سواليف
كتب .. مثنى عبدالله
كل العاملين في الحقل الدبلوماسي يعرفون جيدا أن من العاملين بين صفوفهم من هم ضباط مخابرات بغطاء دبلوماسي. وغالبا ما تكون ساحة عمل هؤلاء هي القسم القنصلي في البعثة الدبلوماسية، لأنها مكان خدمي يؤمّه المواطنون من رعايا دولة البعثة والدولة المُضيفة، للحصول على تأشيرات دخول وتجديد، وإصدار الجوازات، أو للحصول على وثائق لها صلة بالاحوال الشخصية. وبذلك تكون هذه الساحة فرصة جيدة لحصول تماس بين ضابط المخابرات والمراجعين. وهنا يبدأ الحس الاستخباراتي في فرز من هو مفيد لهذا العمل من عدمه، وفق الأهداف المخطط لها مسبقا، حيث تدخل طبيعة العلاقة بين الدولة المَضيفة والمُضيفة في تحديد ذلك.
وليس سرا القول بأن العلاقات بين تركيا والسعودية يشوبها التنافس، بسبب وزنهما الإقليمي، ما يدفع الطرفين للسعي لمعرفة أهداف واهتمامات الطرف الآخر. وأول الطرق للوصول إلى هذا المسعى هو العمل الاستخباراتي. ولأن القنصلية السعودية في أسطنبول مركز حيوي وفيها نشاط كبير، يتبين من خلال العدد الكبير من الدبلوماسيين والموظفين المحليين، فإنه ليس من المعقول أن لا تكون تحت أنظار المخابرات التركية، لكن الجريمة البشعة التي أودت بحياة الزميل الصحافي جمال خاشقجي، أظهرت أن ضباط المخابرات السعودية العاملين في القنصلية كانوا بعيدين تماما عن معرفة ذلك، وللتدليل على ذلك يمكن الإشارة إلى الحقائق التالية:
*أولا، أن الضحية كان محسوبا على النظام السعودي وقريبا من مصادر القرار فيه لفترة طويلة، ثم انشق عنه واتخذ طريقا آخر فيه حس معارضة. على الطرف الآخر كان مُقرّبا من قمة الهرم السياسي التركي. هذه الحقائق لابد أن تدفع المخابرات التركية لرصد تحركاته واتصالاته، خاصة مع القنصلية السعودية، لذا عندما تردد على القنصلية في المرة الأولى كان تحت أنظارهم، وعندما اتصلوا به لإخباره أن أوراقه جاهزة، ويمكنه القدوم في الوقت المحدد له، كان الاتصال مُراقبا من قبل المخابرات التركية أيضا، كما كانت هنالك مفرزة مراقبة رافقته وخطيبته بدون علمهما منذ مغادرتهما المنزل حتى القنصلية. كل هذه الإجراءات كانت غائبة تماما عن المخابرات السعودية، إلى حد أنه فاتهم أن خطيبته بانتظاره في الخارج، وأن شهادتها بعدم خروجه ستكون هي فضيحتهم. في حين كان من المفروض أن يكون لديهم علم إن كان سيأتي وحيدا، أو برفقة شخص ما، أو في أضعف الحالات الاستفسار من الطاقم الأمني في باب القنصلية إن كان قدم معه أحد أم لا.
*ثانيا، كانت للمخابرات السعودية نظرة استخفاف بمقدرة نظيرتها التركية على رصد الجريمة. وحتى لو انكشف الأمر فإن الحكومة التركية غير قادرة على فعل شيء حسب توقعهم، لذلك استدرجوه إلى القنصلية في إسطنبول، في حين تردد على السفارة السعودية في واشنطن ولندن، ولم يصبه سوء، لأنهم واثقون من قدرة المخابرات في هاتين الدولتين، وبالتالي تمنّعوا من تنفيذ الخطة هناك.

جمال خاشقجي كان يساوي لدى السعودية ألف معارض فكل كلمة كان يقولها بحقهم لها مصداقية كبيرة عند الآخرين

*ثالثا، كانت خطة التمويه المُعدة من قبل المخابرات السعودية لخداع المخابرات التركية، تقوم على ستقدام ضابط مخابرات سعودي قريب الشبه من هيئة الضحية. وبعد تنفيذ الجريمة يرتدي هذا ملابس المغدور به ويخرج من الباب الخلفي للقنصلية برفقة آخر. وأن يقوم هذا الأخير بتغطية رأسه بحيث يخفي الغطاء حتى ملامح الوجه. الهدف من هذا الإجراء هو في حال ورود أي استفسار عن اختفاء الضحية، فإن المسوؤلين في القنصلية سيقولون خرج برفقة شخص ما. وعندما تدقق السلطات التركية في كاميرات الشارع الخلفي ستجد فعلا أنه خرج برفقة أحد الأشخاص. في حين كانت عملية التمويه غير متقنة في أمور كثيرة، ويمكن ملاحظة ذلك من مقارنة صورة دخول الضحية إلى القنصلية، أبسطها ان الحذاء الرياضي الذي كان يرتديه البديل غيره الذي كان يرتديه الضحية.
*رابعا، لقد فات المخابرات السعودية أن القنصلية ربما تكون مُخترقة من قبل نظيرتها التركية من خلال الموظفين المحليين، الذين قد يكونون متعاونين مع الأجهزة الأمنية التركية، أو من خلال كاميرات ولاقطات سرية مزروعة في الأجهزة المستعملة في القنصلية، بل إنهم قاموا بنزع القرص الصلب في الكاميرات الخاصة بهم، التي تسجل ما يجري في القنصلية. وهذا يشير إلى أن ضباط المخابرات السعوديين لم يقرأوا حتى رواية واحدة عن حروب المخابرات. فإن لم تكن المخابرات التركية قد استخدمت إحدى هذه الوسائل، فإن خبراء الاتصالات يقولون بإمكانية الشركة المجهزة لخدمة الإنترنت إعطاء كل التفاصيل بالصوت والصورة في مكان الحدث. وهنالك اليوم بعض التطبيقات التي تساعد على معرفة ما يجري حتى في الدار التي تجاورك من خلال شبكة الإنترنت.
*خامسا، لقد استخدموا هواتفهم الشخصية في الاتصال بمراجعهم في الرياض أثناء العملية، بجهل تام بأن الأجهزة الأمنية التركية قد تكون في حالة مراقبة دائمة للاتصالات الصادرة والواردة من وإلى القنصلية. وربما هذا الخطأ هو الذي أعطى مؤشرا واضحا للسلطات التركية عن مصدر القرار في تنفيذ الجريمة، وأنها كانت مُعدّة مُسبقا وليست خطأ غير مُسيطر عليه. وهو ما وجدناه يتكرر وبالحاح، الى حد اليقين، في تصريحات المسؤولين الاتراك.
*سادسا: الغريب أن ضحالة تفكيرهم قادتهم الى التجوال بالسيارة الدبلوماسية في بساتين مدينة (يللوا) وكذلك في (حديقة بلغراد) القريبة من إسطنبول، لوضع اللمسات الاخيرة على خطة الجريمة قبل يوم واحد. في حين كان من المفروض أن يتم التخفي باستخدام وسائط النقل العامة أو سيارات الأجرة، لأن اللوحة الدبلوماسية تعطي مؤشرا على الجهة. يقينا أن السلطات التركية تعلم علم اليقين بكل حيثيات الجريمة بالوثائق والأدلة الحسية وغير الحسية منذ اليوم الاول. وتبين بأن كل تحركات ضباط المخابرات السعوديين العاملين في القنصلية بغطاء دبلوماسي مرصودة تماما. وأن التسريبات التي تمت للإعلام كان الهدف منها إرسال رسالة للسلطات السعودية بأن القصة معروفة، وعليهم إصدار روايتهم الخاصة بالحادث والاعتراف المبكر بالجريمة للتخلص من الإحراج، لكنهم استمروا في غيهم وصموا آذانهم.
إن السياق العام الذي جرت فيه الجريمة يشير وبوضوح تام إلى أن العملية كانت مُدبرة تماما، وكان الهدف منها اقتناص فرصتين بضربة واحدة. الاولى هي التخلص من الصحافي جمال خاشقجي، الذي يساوي لديهم ألف معارض. فكل كلمة كان يقولها بحقهم لها مصداقية كبيرة عند الآخرين، لأنه كان أحد رجالاتهم وعمل في صلب مصادر قرارهم لفترة طويلة. أما الفرصة الثانية فكانت النيل من السلطات التركية بتحميلها وزر اختفائه ومطالبتها بتحمل مسؤولية ذلك، وإظهار أن الساحة التركية تعج بمافيات القتل والجريمة وليست آمنة. وقد شاهدنا الإعلام السعودي والكثير من المسؤولين يضربون على هذا الوتر في الأيام الاولى للحادثة قبل اعترافهم بالجريمة، لكن بعد أن هُزمت المخابرات السعودية وبانت سذاجة خطة التمويه المعدة من قبلهم، تداعت كل تصريحات المسؤولين السعوديين، وانكفأوا إلى موقف الدفاع.

كاتب عراقي وأستاذ في العلاقات الدولية
القدس العربي

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى