
ملوك الطوائف لا يبحثون عن إبن تاشفين
ما زال التاريخ يعيد نفسه، وإن إختلف الشخوص وتباينت الأحوال، وها هو العالم الإسلامي يكرر تجربته في الأندلس، تمزقت الأمة وهانت في نظر أعدائها، حتى تجرأ الذئاب على قطيع ضل الطريق كأسلافه.
إنفرط عقد أمتنا في الأول من تشرين الثاني للعام الثاني والعشرين من القرن الفائت، عندما أعلن مصطفى كمال أتاتورك إنتهاء دولة الخلافة العثمانية، وإن كانت فعليًا قد غربت شمس الدولة الواحدة لحظة خروج السلطان عبدالحميد الثاني من قصر الخلافة، وما عاد للمسلمين بعدها كلمة سواء، وإن كان هنالك محاولات لرأب الصدع ولكن على المستوى القومي العربي لا الرإبط الديني الإسلامي.
يختلف حال المسلمين اليوم عن نظرائهم في الأندلس وقت ملوك الطوائف، لقد فقدوا الهوية، فإن تشابهوا بتعدد الممالك وتنازعها فيما بينها، ولكنهم يختلفون بأن الأمة الآن لا تعرف هدفًا منشودًا تصبوا إليه، ولا رؤية واضحة تسعى لها، نعم إنحرفوا في الأندلس عن تعاليم الإسلام وإنغمسوا في ملذات الحياة على حساب متطلبات العزة والكرامة، ولكنهم لم يخرجوا على هويتهم، فقد غرقوا في نزاعاتهم وقاتل بعضهم بعضًا وحالف القشتالي على حرب أخيه، فإستنزف ألفونس السادس أموالهم ورجالهم وهو يضرب بعضهم بعضًا، ولكن ما أن ظهر شبح سقوط الأندلس، وسقطت طليطلة بيد ألفونش وخرجت من عصمة المسلمين، حتى تداعوا فيما بينهم وسألوا المرابطين وأميرهم يوسف إبن تاشفين العون والمدد، وصارت الكلمات كلمة واحدة وإلتفت الجيوش حول راية واحدة، وسطرّوا نصرهم المؤزر في الزلاقة كاتبين للأندلس عمرًا جديد.
اليوم، إختلف الحال وتبدلت الظروف وغابت الهوية، لم تعد المشكلة الإنحراف عن الهوية بقدر ما هي فقدان الهوية، أنحن مسلمون أم عرب، سنة أم شيعة، سنة الثلاثي السلفي الأشعري الماتريدي أم سنة مؤتمر غروزني، وقبل كل ذلك هل نحن بصدد التحالف في جسد مسلم واحد أم بوارد التفرّد بالجغرافيا التي نحكمها، كانت الأندلس أمة واحدة تفرقت إلى دولٍ وممالك، وإن إختلفت فيما بينها سياسيًا وإداريًا إلا أنها كانت تحت مظلة واحدة، فالأصل واحد والغاية واحدة والعدو واحد، بينما اليوم فلكل دولة عدو هو نفسه صديق وحليف الدولة الآخرى، وإن إجتمعوا تحت مظلة القومية لا الدين في جامعتهم العربية، فالأهداف مختلفة والطموحات مختلفة والتناحر متواجد، حالهم حال المريض إذ يجتمع مع مريض آخر، والمريض إذا إجتمع مع المريض فليس في إجتماعهم قوة ولا إرادة، بل إجتماعهم بمارستان.
يذكر التاريخ أن المعتمد بن عباد عندما هداه تفكيره لدعوة يوسف بن تاشفين أمير المرابطين في المغرب إلى نصرته هو وإخوانه ملوك الطوائف في الأندلس، عارضه ولده الرشيد في دعوتهم خوفًا من أن يطمع المرابطون في الأندلس فيضموها لهم، فما كان من المعتمد إلاّ أن أجاب على ولده بأن تربية الجمال عنده خير من تربية الخنازير، وأنه يخاف إن أذعن للقشتاليين أن يلعنه الله ويلعنه اللاعنون، لعنة خاف منها المعتمد ولم يخف منها مثلاً الأسد عندما إستنصر بألفونس روسيا على أبناء جلدته.
ملوك الطوائف اليوم لا يبحثون عن إبن تاشفين، فهم لم يستفيدوا مما جرى من الأندلس إلاّ أن المرابطين وقبلهم الأندلسيين أزاحوا ملوك طوائف الأندلس بعد الزلاقة بعدما رجعوا إلى ما كانوا فيه من فرقة وإختلاف، فآثروا التعويل على الإستنجاد بالقشتاليين الجدد، وها هو عرّاب ملوك الطوائف اليوم لا يجد معضلة في تربية الخنازير في قاعدة حميمة، خوفًا خيرًا من تربية الجمال في أغمات.